كتبت من قبل فى هذا الموضوع، وأوضحت أن الغربيين قرروا أن يغيروا نمط إدارة الحروب، بعد أن استمر البشر لأكثر من ثلاثة آلاف سنة يعيشون فى الجيل الأول من الحروب القائمة على حشد الجنود والقوات فى مواجهة بعضهم البعض مثلما نشاهد فى أفلام حروب المسلمين والكفار أو الفرس والروم. وفى مطلع القرن التاسع عشر بدأ التطور فى العتاد ينقلنا إلى حروب الجيل الثانى، حيث المدافع البدائية، التى يتم فيها قتل وتدمير جيش العدو عن بُعد وقبل حدوث أى اشتباكات مباشرة بين جنود الجيشين. ثم شهدت الحرب العالمية الأولى بداية التطور نحو حروب الجيل الثالث التى أصبح فيها الاعتماد على التكنولوجيا والطائرات والدبابات والتجسس والمناورة العالية والسرعة الفائقة والهجوم من الخلف بدلاً من المواجهة المباشرة والاستفادة من المعلومات التى توفرها الأقمار الاصطناعية.
وظل الأمر هكذا إلى أن حدثت عدة حوادث تنبّه لها «أندرو مارك» فى مقالة شهيرة فى عام 1975 حول أسباب انتصار الدول الضعيفة على الدول القوية. وكان يتحدث بشكل مباشر عن سبب هزيمة الولايات المتحدة فى حربها فى فيتنام، وضرب أمثلة متعددة من تاريخ صراعات كبرى تنتهى بانتصار الأضعف مادياً وتسليحياً. وترك سؤالاً للاستراتيجيين وهو: كيف تنجح الولايات المتحدة فى علاج هذه المعضلة؟ لأنها دائماً ما ستكون الأقوى عسكرياً واقتصادياً، وقد تنتهى إلى الهزيمة!
هناك عوامل متعددة ذكرها «أندرو مارك» وكانت الأساس لما اصطُلح على تسميته «الحروب غير النمطية» التى لا يكون الحسم فيها لمن يملك قوة نيرانية أكبر، وإنما يكون الحسم فيها لمن هو على استعداد لمزيد من المعاناة أو تحمل تكاليف أعلى، وعادة ما يكون الأضعف أكثر استعداداً لتحمل الخسائر فى الأرواح من الأقوى الذى عادة ما يكون أكثر انفتاحاً وديمقراطية بما يجعل خسائره البشرية والمادية أداة ضغط عليه فى الداخل. كما أن الأضعف عادة ما تكون له ارتباطات قوية بجهات أجنبية تكون صاحبة مصلحة فى استمرار الصراع، كما أن العقيدة القتالية فى كثير من المعارك تكون محدداً مهماً لثبات الأضعف.
كيف تتصرف القوى الكبرى والحال كذلك؟ كيف تردع قوة أضعف منها لا تخشى الهزيمة ولديها ميول انتحارية؟ كيف تنقذ ابنك من مخالب ثعلب جائع غير مكترث بتحذيرك له؟ ما الفائدة لو أن السلاح الذى معك هو قنبلة ذرية وأسرتك مخطوفة فى كهف فى جبل؟
وكانت الإجابة هى أن نجعل العدو يقتل نفسه بنفسه. لماذا أقتله وهو يمكن أن ينتحر؟ لماذا أوحّده ضدى وانقسامه فى مصلحتى؟ لماذا أطلق عليه الرصاص والقنابل، فى حين أننى لو استثمرت واحداً بالمائة من التكلفة على الإعلام الخبيث والشائعات المضرة لمزَّقه كل مُمَزَّق؟
هناك ثلاثة استراتيجيات تُستخدم ضد مصر الآن:
أولاً: محاولة قتل المسار السياسى بالنيل من شرعيته وتصوير إرادة المصريين وكأنها إرادة مصطنعة صنعتها أجهزة الإعلام وأجهزة المخابرات، وبالتالى يستمر الفراغ السياسى أطول مدى زمنى ممكن. وهذا ليس غريباً؛ ولنتذكر أن الغرب كان يبيع الأسلحة للعراق ويسرّب نوعياتها وكمياتها وأماكن تخزينها لإيران كى تضربها، وبالتالى تستمر الحرب أطول فترة ممكنة، لما فى ذلك من استنزاف للطرفين. بدل ما نقتلهم، نوفر لهم أسباب التدمير المشترك.. إلى أن تنبّه الخومينى وأعلن «قبوله بتناول سم التسوية».
ثانياً: إشاعة حالة دائمة من الفوضى المجتمعية عن طريق إنهاك المجتمع واستنزاف الدولة فى معارك داخلية حول قضايا قد يكون بعضها عادلاً ولكنها تقدم فى إطار من تحدى الدولة وتعميق الخلافات فى المجتمع، لنصبح جميعاً فى حالة اقتتال داخلى ولا نلتفت لكوارث أخلاقية واقتصادية واجتماعية وسكانية أخرى نعيشها وستدمرنا على المدى البعيد.
ثالثاً: إشاعة جو من الحرب النفسية والإعلامية المقبلة من خارج مصر لترويج أفكار ومعتقدات تقسم المجتمع أكثر. ولماذا تهتم قطر وقناة الجزيرة لهذه الدرجة بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعية فى مصر؟ ولماذا هذا الكم المهول من الأموال التى تُنفق من أجل استمرار حالة الاقتتال الفكرى والسياسى الذى تعيشه مصر؟ هل تلعب قطر بالتحالف مع بقايا المحافظين الجدد فى الغرب وحلفاء إسرائيل لعبة تطويل الصراع الداخلى وإمداد الطرف الأضعف بأكسجين الاستمرار فى الصراع حتى يتم القضاء على قوة الدولة ووحدة المجتمع؟
المستهدفون من هذه الاستراتيجيات هم ثلاثة:
أولاً: المجتمع حتى ينقسم على نفسه على نحو يجعله يرى بين أبنائه من هم عدو له، وهذا ما حدث بين فتح وحماس، وحدث بين السنة والشيعة والمسيحيين فى لبنان والعراق وسوريا، وبين القبائل فى الصومال وليبيا.. وهكذا.
إذن هى محاولة لأن تتحول مصر إلى حالة اقتتال داخلى وإضعاف ذاتى وانقسام مجتمعى، بحيث لا تستطيع أن تفكر فى الدخول فى معارك داخلية ضد الجهل والفقر والمرض والظلم، أو معارك خارجية لضبط موازين القوى فى المنطقة.
المستهدف الثانى هو الجيش المصرى الذى يريدون له أن يلقى نفس مصير جيوش أخرى فى المنطقة خرجت من معادلة القوة الشاملة العربية لأسباب مختلفة، مثل الاحتلال الأجنبى فى الحالة العراقية، لكن هذا كان مكلفاً جداً للغرب، إذن الأفضل هو الانقسام الداخلى والتحول إلى ميليشيات تشارك فى الاحتراب الأهلى فى الصومال والسودان وسوريا وليبيا.
المستهدف الثالث هو بنية الدولة فى المنطقة العربية كلها بأن تتحول إلى دويلات لا تزيد حجماً عن إسرائيل، والحقيقة أن إعادة رسم خريطة المنطقة على هذا النحو مسألة تتم على قدم وساق. وكل طرف يسهم فيها بما يستطيع: الإخوان وحلفاؤهم يظنون أنهم يخدمون قضية وطنية مصرية بتخليص مصر من «السيسى» ومن «الانقلابيين» من وجهة نظرهم. وأعداء الإخوان لا يفكرون إلا فى تخليص مصر من جماعة «الإخوان» الإرهابية، والثوريون يرون أن «الثورة مستمرة» وأن لهم حقوقاً فى التظاهر والاعتصام غير منقوصة ولا مشروطة ولا منضبطة بأى قانون أو قواعد حتى يتم التخلص من «حكم العسكر» ومن «الداخلية»، وبعض الشرطة وبعض القرارات المقبلة من قمة هرم السلطة تدفع فى تغذية المخاوف والخلافات، وكأننا كلنا قررنا أن نقوم بدور الأبناء الأغبياء الذين يدمرون التركة التى خلفها لهم والدهم وكل واحد فيهم يرى أن وظيفته منع أخيه الشرير من أن يكون فى وضع أحسن.
تذكروا فيلم «الأرض» حين قلل الباشا مياه الرى المتاحة للفلاحين، فوقعوا فى بعض، ودارت معركة بين «عبدالهادى» و«دياب» وأنصارهما حول دورهم فى «سقية المياه»، وبدلاً من أن تكون معركتهم ضد من منع عنهم الماء تقاتلوا، وأثناء المعركة بينهم اكتشفوا أن «البقرة» وقعت فى الساقية. وفجأة انصرفوا جميعاً لإنقاذ البقرة.
هل تتذكرون مباراة مصر والجزائر فى عام 1948؟ كان الكابتن لطيف يقول: «يا عُبطة.. يا عبطة.. هما عايزين يبوظوا الماتش».
أنقذوا بقرة مصر يا أهل مصر، قبل أن تكون نهاية مصر.