يتساءل كثيرون عن سبب إعلان بوتين المفاجئ عن سحب القوات الروسية من سوريا. وقد أحسن سامى كليب فى جريدة السفير اللبنانية تحليل المشهد من حيث خلفيات القرار ومن حيث نتائجه. يقول سامى كليب:
حين قررت موسكو الانخراط عسكرياً على نحو مباشر فى سوريا، كان القرار ثمرة قمة بين فلاديمير بوتين وباراك أوباما. الشىء الوحيد الذى فاجأ الرئيس الأمريكى آنذاك كان توقيت إرسال الطائرات الروسية والذى أبقاه نظيره الروسى سراً. الآن يأتى القرار الروسى بسحب القوات من سوريا ابتداء من أمس (الثلاثاء) نتيجة اتفاق بين موسكو وواشنطن أولاً، ثم تم إبلاغ الآخرين به وفق معلومات دقيقة وموثوقة.
ماذا فى خلفيات القرار؟
■ يأتى القرار فى السياق الطبيعى لاتفاق بوتين وأوباما على رفع مستوى ضغط كل طرف على حلفائه لإنجاح مفاوضات جنيف. الرئيس الأمريكى بحاجة لتحقيق إنجاز سياسى فى سوريا قبل مغادرة البيت الأبيض، والرئيس الروسى يريد تخفيف الأعباء العسكرية ورفع العقوبات الأوروبية عنه والإفادة إلى أقصى حد من فترة السماح الأمريكى.
■ سحب بوتين بقراره هذا ورقة كان معارضوه الغربيون والخليجيون والمعارضة السورية يشددون عليها. كانوا يقولون إن دخول قواته هو الذى عرقل الحل وغيّر المعادلات. هو إذاً يريد تسهيل الحل السياسى وإحراج الخصوم.
■ سحب أيضاً ورقة من أيدى حلفائه السوريين والإيرانيين، فهو يرى أن تشددهم فى التفاوض ناجم عن تغيير المعادلة العسكرية. يبدو أن التقييم العسكرى الروسى مختلف عن تقييم طهران. الأولى، ترى ضرورة استكمال الحسم، والثانية، تفضل الحصول على ثمار بالسياسة والمصالحات.
■ يدرك بوتين أن رغبته بتسهيل الحل السياسى ستجذب إلى موسكو دول الخليج والمعارضة السورية وتسمح لأوباما بالاستمرار فى تسليم مفاتيح الحل له. لكنه لا يريد خسارة الثقل الأكبر لموقعه فى المنطقة عبر تحالفه مع الرئيس بشار الأسد وإيران.
ماذا بعد خطوة بوتين؟
■ ليس صحيحاً ما ورد فى البيان الروسى من أنه «تم تنفيذ أغلب مهمات وزارة الدفاع والقوات المسلحة»، فالحرب لا تزال ضروساً والتهديد لا يزال كبيراً. بدا الأمر وكأنه «جزرة» من بوتين للمعارضة وداعميها، بأن القتال ضدها انتهى وأن ما بقى هو محاربة «داعش». هذا يعنى رسم خطوط تماس سياسية بدلاً من خطوط التماس العسكرية. يرغب بوتين من خلال ذلك بفرض حضور المعارضة الأخرى والأكراد فى مفاوضات جنيف لاحقاً، ولعله يقبل لاحقاً بمشاركة بعض المقربين من جبهة «النصرة».
■ ليس معروفاً حجم ما سيتم سحبه عسكرياً من قبَل الروس، فالقاعدتان العسكريتان فى طرطوس وحميميم باقيتان. والدفاع الجوى سيستمر فى التحرك ضد «داعش». لكن هل سيندرج ذلك لاحقاً فى إطار تحالف أوسع يضم روسيا وأمريكا وأطرافاً إقليمية عدة بينها إيران والسعودية وتركيا وغيرها؟ هذا ممكن إذا ما حصل بوتين على ضمانات أمريكية.
■ ماذا لو دخلت إسرائيل على الخط؟ هى الآن تشعر براحة أكبر. الدول العربية وضعت عدوها اللدود «حزب الله» على لائحة الإرهاب. علاقتها مع بوتين ممتازة. وهى قلقة من نقل أسلحة استراتيجية إلى الحزب. فهل تستغل القرار الروسى بالانسحاب من سوريا للمضىّ فى قرار الحرب؟ هذا ممكن حتى لو أحرج أوباما.
■ هل إيران مرتاحة للقرار الروسى؟ الأكيد لا. فهى أولاً ستواجه ضغوطاً كبيرة للانسحاب من سوريا، وثانياً ستجد نفسها أمام احتمالين، إما الاستمرار فى الحرب ما يعنى وضعها مجدداً أمام مواجهة محتملة مع تركيا (برغم اتفاقهما مؤخراً) والسعودية (التى مهدت للأمر بمناورات حفر الباطن)، وإما الانكفاء والقبول بخطوط التماس السياسية التى تشى بالفيدرالية وربما أكثر. فالقرار الروسى يفسح فى المجال واسعاً أمام احتمال إقامة دولة كردية بموافقة أمريكية. قد يكون هذا الأمر من بين أسباب الانسحاب الروسى.
لا شك أن بوتين فاجأ الجميع بقراره الذى يريد من خلاله تسهيل المفاوضات وكسب الخصوم، لكن لا شك أيضاً أن قراره يعيد فتح الملف السورى على الاحتمالات كافة. يبدو أنه فى الوقت الراهن يعطى الأولوية للاتفاق مع أوباما حتى ولو غضب الحلفاء. لاحقاً قد يغيّر رأيه، خصوصاً إذا ما شعر بأن كل ما قام به لم يغير رأى خصومه وخصوم حلفائه، حين يصبح الحسم العسكرى مبرراً حتى ولو أنه صار مستبعداً الآن.