هذا مقال خطر ولكنه ضرورى، لأنه كمكاشفة النفس بقسوة. ولكن رهانى الوحيد هو حكمة القارئ.. أيوه اللى هو حضرتك.
كم مرة حضرنا فيها صلاة خلف إمام يقول: «اللهم أعز الإسلام والمسلمين؟»، ومع ذلك لم نرَ أن الله أعزنا. طبعاً من المألوف أن نقول إن الله أعز الإسلام، ولكنه لم يعز المسلمين.
لماذا؟
إن المسلمين فى مأزق، إنهم يريدون الجهاد من دون أن يعدوا له ما استطاعوا، ويريدون تصحيح صورتهم عند غير المسلمين من دون أن يجتهدوا بالقدر الكافى لتصحيح واقعهم، ويريدون أن يُولَّى أمورَهم خيارُهم من دون أن يتحملوا أكثر من مشقة الدعاء.. إنهم «أرادوا الخروج» من دون أن «يعدوا له عدته» فألقوا بأنفسهم فى مفارقة الأمل فى سنن الله الخارقة من دون العمل من أجل سنن الله الجارية.
إن الرسول الكريم أعد عدة الهجرة من طعام وشراب ودابة ورفيق ودليل (وإن كان كافراً) أخذاً بسنن الله الجارية. ثم جاء احتياجه لسنن الله الخارقة حين قال صاحبه: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»، فتدخل الله بسننه الخارقة بأن أوحى لعبده ألا يحزن فإن الله معه. وكأنه يكرر مقولة موسى عليه السلام يوم أخذ بسنن الله الجارية بأن أسرى بعباد الله ليلاً لأنهم متبعون، وحين احتاج المؤمنون مع موسى لسنن الله الخارقة كان الله عوناً لهم فقال موسى: «إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ».
لقد سئل يوماً الفيلسوف الزكى النجيب محمود عن محنة المسلمين فكان رده أنهم قد فقدوا الحس الإسلامى؛ فأقاموا الشعائر والعبادات وضيعوا القيم والمنهج. وهذا الحس هو أعظم ما يزرعه الإسلام فى المسلمين، فيعرفون موضع العمل والفعل، ويعرفون مكانة التوكل على الله وحسن الظن به.
إن عظمة الحضارة الإسلامية لم تأت من قدرتها على خرق العادات والارتفاع فوق قوانين الطبيعة وتحدى سنن الله فى خلقه، بل باكتشافها والتفاعل معها. فقدّروا العقل ورفعوا منزلته، وطوّروا مناهج وأدوات بحث جديدة اختلفت جوهرياً عما خلفه اليونان القدماء. لقد اخترعوا علوماً كالجبر مثلاً، وصححوا مسارات أخرى كالكيمياء والفيزياء والطب. لقد جمعوا سيادة الكون وعبادة الله فى معادلة تؤمن بسنن الله الكونية وتستلهم العمل من دون البحث عن خرق القوانين. قال أحدهم: للجهاد معجزاته والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا حتى من دون أن نكون أقوى من عدونا، فلا ينبغى أن نؤجل الجهاد فى فلسطين وأفغانستان والعراق وسوريا، قلت: ولكنك تخليت عن سنة الله فى خلقه، فالموت وحده ما كان أسمى أمانى المؤمنين الأوائل، فلو صح هذا لما عاد خالد بن الوليد بالجيش من مؤتة بعد أن تبين له استحالة النصر وهلكة الجيش، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا من باب «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (البقرة 195).
إن نصرة دين الله هى أسمى أمانينا، أما الشهادة، بنصر أو من دون نصر، فهى نتيجة سعينا للنصر وليست هدفاً فى ذاتها. فلقد أجّل الرسول بعض المعارك (كغزوة ذات الرقاع مثلاً)، إلى ما بعد صلح الحديبية حتى يأخذ بسنن الله الجارية فى الإعداد والتخطيط والنصر.
لقد استعان الرسول بسنن الله فى خلقه بأن جعل الحكمة والعلم ضالة للمؤمن (رغماً عن أنه لا يوجد حديث بهذا النص)، وقد وجدهما المسلمون عند الفرس فى فكرة حفر الخندق، وعند الرومان حينما استعان المسلمون بالمنجنيق لفتح الطائف، وعند المنافق (صفوان بن أمية) لحرب هوازن.
إن المسلمين قد ابتُلوا بمرض تسجيل المواقف (بالدعاء مثلاً) أكثر من السعى العملى لحل المشكلات (بالتفكير العلمى من أجل التخطيط لمستقبلهم). سمعت أحد الدعاة فى شريط إسلامى يقول: «إن الله لن ينصر المسلمين على اليهود حتى يكون عدد المسلمين فى صلاة الفجر كعددهم فى صلاة الجمعة»، إن صلاة الفجر واجبة، وهى فى المسجد أفضل درجات عند الله، هذا مما لا شك فيه، لكن ما علاقة صلاة الفجر فى حد ذاتها بالنصر على اليهود؟ ربما كان يقصد أن يقول إن الله سينصر المسلمين إذا أبكروا بالقيام من النوم طاعة لله ثم عملاً دءوباً لينفعوا أنفسهم والمؤمنين وعشقاً فى إتقان ما يعملون ولسان حالهم: «رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».
إن سنن الله الخارقة لا يمكن التخطيط لها لأنها ليست بأيدينا، وإنما بيد الله يقلبها كيف يشاء «وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» (المدثر 31)، ويمكن أن تعمل فى صـــالح المؤمن كما للكافر. فالله «رب العالمين»، وليس فقط «رب المسلمين»، ومن هنا كان التمييز بين عطاء الربوبية الذى لا يفرق بين مؤمن وكافر، كما فى قوله: «كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا» (الإسراء 20)، وعطاء الألوهية الذى يمنّ الله به علــــى عباده الذين جمعوا بين صفتَى الإيمــــان باللـــه (قلباً ويقيناً) والعمل الصالح وفـــق سننه كما فى قوله: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُـــوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيـــعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً» (الكهف 30).
وعلى هذا، فالعاقل المخلص فى عمله وإن كان كافراً سينتصر على المزيف والمتواكل وإن بدت عليه أمارات الإيمان. إن مثل حال المسلمين كمن يرفض أن يتعلم السباحة ويخطط أن يغزو محيطات وبحار العالم بالدعاء من دون العمل.
إننى كم كنت أتمنى أن يطلب الأئمة والمشايخ من المسلمين أن يستبدلوا التزيُّد فى بعض السنن بجهد منظم لتنظيف شوارعهم من القاذورات، ما دامت النظافة فرضاً على المسلمين. إن أنفس المسلمين عامرة بالرجاء فى الله والخوف منه، لكنها ليست عامرة بعلم سننه وتأمّل قوانينه والبحث العملى عن علاج لمشكلاتهم. إن مثل مواطنى إسرائيل وألمانيا وكوريا الذين ينظفون شوارعهم ومدارسهم بأيديهم كمثل المتوكل على الله الذى أخذ بسنن الله فى خلقه وكونه، والمتواكل بل المنافق الذى يدعو الله أن «تسقط عليه السماء ذهباً وفضة» وهو لا يحرك ساكناً بل يأمل فى نظافة شارعه وهو يلقى فى الشارع كل قاذوراته.
وقبل أن يظن ظان أننى أدعو المسلمين للتوقف عن العبادة لصالح أعمال دنيوية، لا بد من توضيح أن الحس الإسلامى السليم هو الذى جعل ابن الخطاب يقول إنه ينظر للرجل العابد فيعجبه حتى يعلم أنه لا حرفة له فيسقط من نظره.
وكما قال محمد الغزالى: إننا بوضعنا هذا أمة تسقط من أعين أصحاب العقول النيرة والهمم العالية.
إننا بحاجة لإعادة ترتيب الأولويات لنجعل قيم العمل والعلم والابتكار والإتقان فى المقدمة على قيم الصبر المتخاذل والتواكل الساذج ودعاء العجزة وانتظار المعجزات، اللهم أعطنا قلوب أهل الحرم المخلصين وعقول أعدائنا المجتهدين.. آمين.