معتز بالله عبد الفتاح
مصر تفقد أفضل عقولها إلى الخارج. العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة. العملة الجيدة خرجت ولن تعود.
تعالوا نبدأ القصة من عام 1986، حين التحقت مع عدد من متفوقى الشهادة الإعدادية بفصل المتفوقين الذى كان يحمل رقم (15/1) فى المدرسة الإبراهيمية الثانوية فى قلب القاهرة. وكان هذا الفصل يضم 35 طالباً ممن قد حصلوا على 93 بالمائة أو أكثر فى امتحان الإعدادية فى مدارس القاهرة المختلفة. وقد كان هذا الجمع من الطلاب يمثل بحق نخبة من بذور علماء ومفكرين وباحثين مرموقين فى المستقبل إن توافرت لهم بيئة صالحة تشجعهم على العلم وتفيد من اجتهادهم. وقد خصصت إدارة المدرسة لهذا الفصل عدداً ممن اعتبرتهم أفضل الأساتذة فى كل المواد العلمية. تمر الأيام ونتخرج فى مدرستنا العزيزة إلى جامعة القاهرة بين كليات الطب والهندسة والصيدلة والعلوم والحقوق والاقتصاد والعلوم السياسية.
وكلما مرت سنة، ضعفت روابطنا بحكم تباين الاهتمامات وتباعد المسافات، ولكن كان الخبر أبداً يأتى إلى أحدنا بأن الزميل هشام هو أول دفعته فى كلية الهندسة قسم مدنى، والزميل عمرو هو أول دفعته فى كلية الهندسة قسم اتصالات، وأن فلاناً وعلاناً هما من الأوائل على الدفعة فى كلية طب قصر العينى. وقد كان خبر تفوق أى زميل دافعاً مضاعفاً لكل الزملاء بأن يتركوا الكسل وأن يشحذوا الهمم. وكلٌ فى كليته، قد أحسن وأضاف بقدر ما استطاع.
ولم يكن مستغرباً أن يُعيّن معظم الزملاء معيدين فى كلياتهم بحكم أنهم أوائل دفعاتهم. وتمر السنون، وتتفرق بنا السبل ليس بين كليات متقاربة فى جامعة واحدة، وإنما فى بلدان لا يجمعها رابط إلا أنها انتصرت للعلم ونصرت أهله بأن وفرت لهم بيئة صالحة يجمعون فيها بين العمل لله (أى بما لا يتعارض مع نواهيه)، والعمل للوطن (أى بما لا ينال من مصالحه)، والعمل للحياة الكريمة، لأن أياً منا لا يستطيع بحكم الفطرة أن يقبل حياة تهينه أو ذويه.
هل تعلمون حضراتكم أنه لا يوجد فى مصر من بين هؤلاء الـ35 متفوقاً سوى خمسة تقريباً؛ أما الآخرون فهم فى زوايا الأرض الأربع، باحثين وعلماء، أطباء ومهندسين، يبنون حياتهم بعيداً عن الوطن.
دول العالم الأخرى كانت أنجح فى الاستفادة من أبنائها المهاجرين؛ فأكثر من 60 بالمائة من الأبحاث التى يجريها الباحثون الإسرائيليون تكون فى جامعات أوروبية أو أمريكية، لكنها تتم بالتعاون بين الجامعات الأم فى إسرائيل وهذه الجامعات الكبرى فى العالم.
أما نحن، فيبدو أن القائمين على شئون الوطن لا يرون قيمة أو فائدة من أولئك العاملين فى الخارج. وهو ما يتناقض مضموناً ويتعارض قطعاً مع الحديث عن جهود مصر لتحقيق التنمية. فيبدو أن السادة المسئولين معنيون أكثر بسؤال «ما» الذى تصدره مصر و«ما» الذى تستورده من الخارج.
ولكنها غير معنية بسؤال «من» الذين تصدرهم مصر و«من» الذين تستوردهم من الخارج. إن مصر تصدر للعالم الخارجى أفضل عقولها، علماء ومفكرين ومهندسين ومدرسين، بل وعمالاً حرفيين. أى أنها تصدر للخارج كل بناة النهضة وحملة مشاعل التقدم، وفى المقابل تستورد «أهل الدعة والسكون» كما قال ابن خلدون، من مدربى ولاعبى الكرة، ومغنى وممثلى العرب، أى أهل التسلية والفرفشة، لا سيما أنهم لا يقدمون لنا فى أعمالهم الفنية فضيلة تُرجى أو معلومة تُفيد إلا فيما ندر.
فمصر بالنسبة لهم ملهى ليلى ضخم واستوديو مهول.
هذا كلام قديم يحتاج إلى تجديد طالما أن المشكلة لم تزل قائمة. إن أحد أسباب نهضتنا ومؤشرات نجاحنا أن نستفيد من طاقات أبنائنا.
"الوطن"