الدستور المصرى ينص على التزام البرلمان بإصدار قانون للعدالة الانتقالية فى دورة انعقاده الأولى ولم يفعل.
لماذا؟ لا أدرى، ربما البرلمان لا يعتبر نفسه ملزماً بما ألزمه الدستور به.
المهم أن تونس فعلتها، واستمع التونسيون لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان على مدار خمسة عقود منذ الاستقلال فى جلسات علنية تبث على الهواء فى التليفزيون الرسمى.
وتهدف الجلسة التى بثت الخميس، وجاءت ضمن جهود هيئة الحقيقة والكرامة التى تأسست عام 2013، إلى تخفيف التوتر الناتج عن انتهاكات حقوق الإنسان فى البلاد فى السابق.
وتم إبلاغ اللجنة بأكثر من 62 ألف واقعة، من بينها وقائع تعذيب واغتصاب، منذ عام 2013.
وتحقق الهيئة فى تقارير تعذيب على يد الشرطة وفساد وقتل فى فترة تمتد إلى 50 عاماً منذ استقلال البلاد.
ومن بين المنتهكين المزعومين السلطات التونسية السابقة وقادة الأجهزة الأمنية.
وربع عدد الضحايا المزعومين من النساء اللاتى تقدمن بشكاوى لتعرضهن لعنف جنسى.
وقال خالد الكريشى، عضو الهيئة للصحفيين: «سنشارك فى كشف حقيقة هذه الانتهاكات حتى نطوى الصفحة وننتقل مباشرة إلى المصالحة الوطنية».
ولكن أنطونيو مانجيلا، عضو جماعة محامين بلا حدود، ومقرها الولايات المتحدة، قال إن الهيئة تواجه تحديات: «ما زال هناك الكثير من الممانعة من قبل مؤسسات الدولة للتعاون مع الهيئة».
وقالت رنا جواد مراسلة «بى بى سى» فى تونس، إن ضحايا الانتهاكات سيكون أمامهم نحو ساعة للإدلاء بشهادتهم أمام لجنة من المفوضين وجمهور يضم ممثلين عن الجمعيات المدنية ومراقبين دوليين.
وتأمل اللجنة فى أن يسامح الضحايا معذبيهم المزعومين، ولكن الكثير من الضحايا الذين تحدثوا إلى «بى بى سى» يقولون إنهم طالبوا بتعويضات مادية، وقالوا إن المتهمين يجب محاسبتهم قضائياً.
وقالت الهيئة إن المتهمين قد يسمح لهم بالإدلاء بشهادتهم فى المستقبل القريب.
ومن المقرر إجراء جلستين أخريين يبثان تليفزيونياً فى ديسمبر ويناير المقبلين، هذا يشبه ما حدث فى رواندا بعد أن تم قتل الآلاف من قبيلة التوتسى. كان القتلى من كل الأعمار بلا تفرقة، وعادة ما يكون القتل مصحوباً باغتصاب وتعذيب وسرقة ونهب، بل إن بعض المعتدلين من الهوتو كانوا يُقتلون من قبَل متطرفى الهوتو، لأنهم كانوا يعارضون ما يفعله المتطرفون، ووفقاً لشهادة أحدهم: «كنا خونة من وجهة نظر بنى قبيلتنا، لأننا كنا نحضهم على العيش المشترك والسلام الاجتماعى».
المذابح توقفت، ولكن الآلام والذكريات التعيسة لم تتوقف عن إثارة الأحزان والآلام.
للحظات سيظن بعضنا أن هذا مجتمع انهار وانتهى، الحقيقة أن العكس هو الصحيح، ولو سمعت أو قرأت بعضاً من تفاصيل ما حدث ويحدث فى رواندا لقلت: «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون رواندياً»، المسألة احتاجت إلى وثيقة للمصالحة الوطنية وتشكيل نظام قضائى للحقيقة والمصارحة (أحد مكونات العدالة الانتقالية) ورئيسين ودستور جديد، وخطة تنمية متوازنة وشعب متجه بشدة نحو العمل والبناء للمستقبل وليس الشتيمة والسب فى أى وقت وكل أحد وكل حاجة.
بعد ما توقفت المعارك كان لا بد من نظام للمحاكمات يضمن ألا ينفصل الحق عن العدالة كما يحدث فى مصر؛ حيث قد نعرف من ارتكب الجريمة، ولكن لا نعرف أن نثبت ارتكابه لها بسبب مشكلات فى الإجراءات.
وهنا عاد الروانديون إلى جذورهم ليتبنوا نظام «Gacaca courts» وتنطق محاكمات جاتشا تشا، والتى تكوّن منها نحو 10 آلاف محكمة على درجات متفاوتة لتحاكم نحو 120 ألف متهم بالتطهير العرقى أو القتل الفردى أو السرقة أو الاغتصاب، وهى فى الأصل شكل من أشكال القضاء المحلى القروى، وقد تبنت الدولة هذه الفكرة ونظمتها فى صورة محاكم على ثلاث درجات، وتتكون كل محكمة من تسعة قضاة يكون أحد أعضائها أحد القضاة المحترفين، أما البقية فهم أشخاص منتخبون من أهل كل قرية أو مدينة، ويميل هؤلاء دائماً إلى العفو وتخفيف العقوبة إذا وجدوا أمامهم أن المتهم اعترف بخطئه وطلب مخلصاً أن يسامحه من أخطأ فى حقهم.
وقد قامت هذه المحاكم بتصنيف الجرائم إلى أربعة أنواع وتتدرج معها العقوبات: فمن سرق ورد ما سرق وطلب العفو يُعفى عنه، وترتفع حدة العقوبة ومدتها مع ارتفاع الجريمة، فمثلاً تم إعدام 22 شخصاً فى العلن، لأنهم لم يكونوا يقتلون فقط، ولكنهم كانوا يحرضون الآخرين بعنصرية شديدة على القتل الجماعى.
الرئيس الحالى فى رواندا اسمه «بول كاجمى»، يُنتخب لسبع سنوات، البرلمان الرواندى يكاد يكون الوحيد فى العالم الذى أغلبيته من النساء، مؤشرات النمو فى رواندا تعد من الأعلى أفريقياً، الناس بدأت تنظر إلى الأمام، لأنها اكتشفت أن النظر إلى الماضى طويلاً ليس مجدياً، بل إنه معطل، إجراءات المصارحة والمحاكمة والمصالحة نجحت فى وضع رواندا على الطريق الصحيح، كلما قرأت عن رواندا تفاءلت.
السؤال الآن: هل مصر بحاجة لشىء من هذا؟ أم أن الزمن كفيل بأن ننسى وكما يقال: «إحنا ولاد النهارده».
القضية أكبر من حسمها فى مقال، ولكنها تستحق النقاش.