بقلم : معتز بالله عبد الفتاح
من التصورات المتميزة بشأن تأثير فوز «ترامب» على المنطقة ما كتبه الأستاذ أحمد منصور على موقع «ساس بوست» وجاء فيه:
هنا لا أعرض لطبيعة السياسات الخارجية لـ«ترامب»، ولا عن تغير السلوك الخارجى الأمريكى مثلاً حيال النظم التى لا تعتمد النموذج الليبرالى السياسى الأمريكى. هنا سأتناول تحديداً منحى جيوسياسياً، ودون استطراد فى الدوافع وآليات التفكير التى أوصلتنى إلى هذا الاستنتاج. ألا وهو عودة روسيا إلى القارة الأوروبية، وبالمباركة الأمريكية من «ترامب».
منذ بيتر العظيم، وما أطلقه من إجراءات عميقة وأخرى شكلية لعملية «تغريب روسيا» حملته على إلزام الرجال بحلق لحاهم، وروسيا تعتبر أوروبية جيوسياسياً، وذلك رغم التباين بين الحال السياسى الداخلى لروسيا القيصرية، وقريناتها من الملكيات الأوروبية، إذ كانت روسيا تمثل الدرجة الأكبر فى القمع السياسى الداخلى، وكثير من الاختلافات الاجتماعية والثقافية الدينية الأخرى، إلا أنها كانت أوروبية فى علاقاتها مع أوروبا، ومع الشرق الأقصى، ومع الشرق الأوسط، وحتى فى خطط الانتشار الحربى والتكتيكات العسكرية والنظم الإدارية كانت أوروبية إلى حد كبير أكثر منها أوراسية. وكان الشرق العربى والعثمانيون يرون روسيا قوة «غربية»، وكانت روسيا جزءاً من حركة الاستعمار الغربى، رغم أنها لم تنَل شيئاً من الدول العربية، إلا أنها كانت جزءاً من طاولة القرار الأوروبى للمنطقة، وتنال ما تناله من مصالح بمقاربات متعدّدة الأشكال مع بريطانيا وفرنسا وغيرها.
إلا أن هذا تغيّر جذرى (paradigm shift) مع صعود الشيوعية إلى السدة، ومع لينين، ومنذ عام 1918، يمكن اعتبار الاتحاد السوفيتى دولة أوراسية لا أوروبية فى نظر الحلفاء الغربيين.
لكن بعد انهيار حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفيتى واتحاد الألمانيتين، وعودة المسمى «روسيا الاتحادية» بدلاً من الاتحاد السوفيتى، دفعت واشنطن بموسكو خارج القارة الأوروبية، دون أن تترك متنفساً لأى احتمالية تعود بها من جديد إلى أوروبا كما كانت إبان العهد القيصرى، وكان ذلك متوقعاً أن يحدث إذا ما مرّرته واشنطن، لكنها ألزمت روسيا بغير ذلك، وأصبح الدفع الأمريكى لروسيا خارج دائرة استقرارها الأوروبية الغربية جزءاً من ثوابت السياسة الخارجية لدى النخبة الأمريكية.
الآن وقد أتى رجل غير نخبوى، يصرح بأنه يرى «بوتين» صديقاً أكثر منه منافساً أو خصماً، وبتفهم أن «بوتين» يرى نفسه القيصر بيتر الجديد، ومحتفظاً بالنزعة السوفيتية دون فكرها أو مبادئها، وإذا أضفنا العوامل الأخرى فى الاتحاد الأوروبى، مثل الرغبة الألمانية فى تقارب روسى - أوروبى يوسّع قدرات الاتحاد الاقتصادية، وتنامى حركات اليمين المتطرف، التى يمكنها أن تتقارَب مع «بوتين»، مثل مارين لو بان الفرنسية، ومع تخلخل المنطقة سياسياً، حيث تهاوت النظم التقليدية، وتهاوت أيضاً البدائل التقليدية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، فإنها كلها تصب فى النقطة ذاتها.
فى اللحظة التى يكتمل فيها هذا التغيّر الجيوسياسى بحيث يستوعبه قادة العالم، ويصبح فهمه مشاعاً لدى الخاصة والعامة، تبدأ مرحلة جديدة «كارثية» فى الشرق الأوسط. إذ مع العودة الجيوسياسية لروسيا إلى القارة الأوروبية، مترافقة مع انسحاب البساط تدريجياً من تحت أحادية القطبية الأمريكية -شاءت واشنطن أم لم تشأ- تحمل احتمالية واحدةً لمنطقة الشرق الأوسط، وهى فترة استعمارية جديدة للمنطقة العربية. تقتسم فيها روسيا وأوروبا والولايات المتحدة -قوى الغرب إجمالاً بعد العودة الروسية إلى القارة الأوروبية- منطقةً صارت هى الأكثر تعقيداً فى مناحيها السياسية الداخلية إلى درجة تناقضية الصراع، والأكثر تضاؤلاً فى المنحى الاقتصادى والإدارى.
هذا الحديث عن حقبة استعمارية جديدة مخالف لما يتداوله الباحثون والساسة حول مؤامرة غربية لإعادة ترسيم الحدود، إذ إعادة الترسيم وقتها ستكون جزءاً تنفيذياً، وليس هدفاً فى حد ذاته.
حديثى هذا يمكنك تقبّله إذا تذكرت الأشخاص الذين اختارهم «ترامب» لمواقع حساسة كلها قادرة على صنع الحرب، بدءاً بمستشار الأمن القومى، الذى كان قائد القيادة المركزية العسكرية للولايات المتحدة، والمعنية بمنطقة الشرق الأوسط. مروراً بتزايد عدد الذين اختارهم من البوتقة العسكرية لكثير من المناصب السياسية المدنية، لكن وبخلاف ما يتحدث عنه الكتّاب السياسيون عن حرب عالمية نووية بين الغرب والشرق، طرفاها «ترامب» و«بوتين»، فإننى أتوقع أنها حرب تجمع الرجلين اللذين يصرحان برغبة عارمة لدى أحدهما فى لقاء الآخر. ثم هناك اللقاء الأوحد الذى جمع بين «ترامب» و«أوباما» لمدة ساعة، وكان للوضع فى الشرق الأوسط نصيب الأسد من حديثهما.
المصدر : صحيفة الوطن