عشرات النظريات خرجت لتوضح وتفسر لماذا تنجح قيادة ولماذا تفشل أخرى؟ وكما هو الأمر فى كل العلوم، الطبيعية والاجتماعية، يكون هناك اهتمام بالتعرّف على خصائص الظاهرة، رصداً وتفسيراً، وصولاً إلى التنبؤ بسلوك الظاهرة ثم التحكم فى خصائصها.
وتعد قضية القيادة، سواء على مستوى المنظمات والمؤسسات أو الوحدات السياسية من القرية، وصولاً إلى الرئاسة من أكثر القضايا التى اهتم بها الباحثون. وكان من أهم من اهتم بالقيادة وبطريقة عملها هو «John Kotter» أستاذ الإدارة فى جامعة هارفارد، الذى كتب فى 1955 كتابه «قيادة التغيير»، الذى تحدث فيه عن ثمانى خطوات لإدارة التغيير، ولنقصر الأمثلة على ما هو مرتبط بالقيادات فى مواضع السلطة:
أولاً: خلق إحساس بالعجلة والإلحاح sense of urgency.
وهو ما يقتضى من القيادة توضيح موطن الخطر والتهديد ورسم سيناريوهات لمسار الأحداث فى المستقبل والانعكاسات السلبية، لاستمرار الأوضاع على ما هو عليه. ويقوم القائد بعقد نقاشات موسّعة ومخاطبة جموع شعبه باللغة والطريقة التى تثير فيهم الغيرة على بلدهم والاستعداد للتضحية من أجله.
ثانياً: بناء تحالف قوى.
لا يمكن تصور النجاح فى إدارة التغيير فى المجتمع دون وجود تحالف قوى ومؤثر يدعم هدف التغيير والتطوير ويعمل على إنجاحه.
جزء من قوة هذا التحالف هو تنوع مصادر قوته: مناصب عليا، رؤوس أموال، خبرة، مكانة عند قطاعات واسعة من الناس، وهكذا. هذا التحالف لا بد له من رؤية مشتركة يسهم هو، كتحالف، فى صياغتها ويتفق على ملامحها ويلعن التزامه بها.
ثالثاً: خلق رؤية للتغيير.
هناك عشرات، وربما مئات أو آلاف الأفكار الجيدة، لكنها تظل مجرد أفكار ما لم تتحول إلى رؤية تربط هذه الأفكار ببعض، وتضع لها إطاراً يعكس رؤية يتذكرها الناس ويقبلون بها. «الرؤية» تكون ناجحة حين يستوعبها الناس، لدرجة أنهم يربطونها بقرارات وإجراءات على الأرض. وفى هذه الحالة يكون منطقياً أن يطلب القائد من الناس أن يضحوا من أجل وطنهم. وبناء الرؤية ليست مسألة سهلة كما قد يبدو، لأن القائد بحاجة إلى أن يبنى رؤيته على قيم هى أصلاً ذات وزن عالٍ عند أفراد المجتمع، ثم يتم صياغة هذه الرؤية فى كلمات محدّدة، ثم ترتبط الكلمات باستراتيجية تنفيذ. وعلى القائد أن يتأكد دائماً أن المحيطين به وشركاء التحالف يستوعبون تماماً هذه الرؤية ويستطيعون شرحها فى دقائق معدودة.
رابعاً: توصيل الرؤية إلى المواطنين مراراً وتكراراً.
يكون القائد مطالباً بأن يتحدث عن الرؤية وما ارتبط بها من استراتيجية كثيراً ليس فى اجتماعات أو مناسبات بذاتها، وإنما هو يربط كل قراراته برؤيته واستراتيجيته دائماً. المواطنون تشغلهم عشرات القضايا يومياً، وهم بحاجة دائمة إلى أن يربطوا حياتهم اليومية برؤية أكبر منهم ومن مشكلاتهم الشخصية. هذه الرؤية إن لم تصدر من القائد، فلن تصدر، ويعيش المجتمع بلا بوصلة. ولا بد أن تقوم أدوات التواصل الإعلامى والدينى والتعليمى والثقافى بدورها فى توصيل هذه الرؤية إلى المواطنين، طالما أنها رؤية وطنية وإنسانية وليست حزبية أو طائفية.
وجزء من الرؤية هو إيجاد مساحة مشتركة بين أصحاب المصالح المتعارضة، بحيث يجد الجميع، أو الأغلبية الكاسحة، مصلحة مشتركة فى بناء مستقبل مشترك وفقاً للرؤية المطروحة.
خامساً: إزالة العوائق.
هل يوجد من يعمل بدأب ضد الرؤية التى تتبناها القيادة وما يرتبط بها من استراتيجية؟ يقول «كوتر»: «هناك من سيقاومون التغيير ويعملون ضده، وهناك من لا بد أن يتصدى لهؤلاء، وإلا فقدت القيادة قدرتها على أن تنتج إنجازاً حقيقياً على الأرض».
لذا فإن القائد مطالَب بأن ينظر إلى بنية الدولة، وبالذات فى المناصب العليا فيها، وأن تنتقل الثقافة نفسها إلى من هم فى هذه المناصب. ولا بد من مكافأة الحريصين على الصالح العام، ومن يتبنّون الرؤية العامة للدولة وتقديمهم للمجتمع كنماذج للتغيير المنشود والتطوير المطلوب. وفى المقابل لا بد من معاقبة والتخلص من أولئك الذين يعملون ضد رؤية التغيير. وهذه مسألة تحتاج إلى التفرقة الواضحة بين من يقفون ضد رؤية الدولة وبين من يقدمون نقداً موضوعياً لقرارات قد تكون خاطئة، أو فيها مساحة من الخطأ. لا بد من الترحيب، والتشجيع، لكل من يقدم نقداً مخلصاً أو نصيحة بناءة، ولا بد من التخلص من المثبطين والمعوقين.
سادساً: خلق نجاحات قصيرة المدى.
لا يوجد ما يُحفز الناس على العمل مثل النجاح. لا بد أن يكون مذاق النجاح حاضراً فى حلق المجتمع خلال المراحل المبكرة من إدارة التغيير، لأن مذاق النجاح يرفع مساحات الأمل وينال من مساحات اليأس. وهذا هو ما يطلق عليه اسم «quick wins». دون هذه النجاحات المباشرة والسريعة، ستكون هناك مساحة لأعداء التغيير، بل بعض أنصاره من الذين يسهل أن يفقدوا حماسهم كى يأخذوا رؤية التغيير واستراتيجية تنفيذها بالجدية الكافية.
لذا يكون جزء من الرؤية طويلة المدى فيه بعض النجاحات الجزئية قصيرة الأجل. وبالمناسبة هذه واحدة من أصعب المساحات التى تحتاج إبداعاً خاصاً من فريق العمل، حتى لا يحدث تضارب بين الأهداف طويلة الأجل والنجاحات الجزئية قصيرة الأجل. وهنا تكون القيادة مطالبة باختيار أهداف لا يسهل انتقادها من قِبَل المعارضين والمشككين، وتكون احتمالات الفشل فيها ضعيفة جداً، ويكون عائدها ملحوظاً عند قطاع واسع من المواطنين. ولا ينسى القائد أن يكافئ القائمين على هذه النجاحات الجزئية علناً، مادياً ومعنوياً. لأن هذه المكافآت تخلق حافزاً قوياً عند الآخرين كى يسيروا فى الاتجاه نفسه.
سابعاً: البناء على النجاح.
يزعم «كوتر» أن الكثير من مشروعات التغيير والتطوير تفشل، لأن القائمين عليها «يعلنون الانتصار والنجاح قبل أوانه»، وبالذات عند أولئك الذين ينخدعون بالنجاحات الجزئية والسريعة «quick wins» التى أشرنا إليها فى الخطوة السابقة. السرعة المبالغ فيها فى إعلان النجاح خطأ يقع فيه البعض، لأنهم انشغلوا بالنجاح الجزئى عن التغيير الجذرى. الشعور بالرضا المبكر دون الوعى بالتحديات اللاحقة يخلق حالة من الاسترخاء التى تفقد الناس الإحساس بالتحدى والتضحية.
لا بد من تقييم النجاحات والإخفاقات، وربط الأسباب بالنتائج. لا بد من تجديد الدماء والالتزام بمؤشرات أداء (key performance indicators) تضمن أن الجميع يتحرك من أجل تحقيق الرؤية، وفقاً للاستراتيجية الموضوعة.
ثامناً: خلق ثقافة وبيئة الإنجاز.
الناجحون والمبتكرون والمضحون سيكونون أكثر نجاحاً وابتكاراً وتضحية حين توجد بيئة تكافئ من يستحق، وتعاقب من يستحق وتحاسب الجميع. ربط القدرات بالاحتياجات، والقضاء على ثقافة المحسوبية واللامعيارية ضمان لأن يستمر النجاح، وواحد من مؤشرات هذا النجاح هو وجود صف ثانٍ وثالث من القيادات الأصغر سناً والأكثر قدرة على الاستجابة لتحديات العصر الذى يعيشون فيه.
والله أعلم.
المصدر : صحيفة الوطن