معتز بالله عبد الفتاح
بعض ما يخططه الأمريكان يتحول إلى حقائق مع الزمن. هذا مقال هام كتبه د. محمود الزغول ونشره معهد واشنطن عن الدور الذى يرسمونه للأردن.
يقول محمود الزغول:
عاد الحديث حول سيناريوهات إعادة ترسيم خرائط المنطقة، ومنها سيناريو «الأردن الكبير»، إلى التداول فى الأوساط السياسية العربية والغربية بعد الإخفاقات المتتالية للحل السياسى فى سوريا، وظهور مؤشرات على انهيار العملية السياسية فى العراق، وهو ما عزز وجهة نظر مسئولين من عدة دول قالوا بأنه لم يعد بالإمكان الاحتفاظ بالعراق وسوريا مُوحّدتين، وأن حالة الفوضى والصراع فى المنطقة تقتضى طرح خيارات جديدة لإحداث توازنات إقليمية، أو إيجاد مخارج للأزمات التى وصلت إلى أفق مسدود. وبموازاة الحديث عن «الأردن الكبير» عادت إلى السطح مرة أخرى أطروحة «الكونفيدرالية» بين الأردن والضفة الغربية -التى تم نبذها فى الماضى كرؤية فاشلة لاتفاقية «سايكس بيكو»- وأصبحت محل اهتمام الفاعلين الدوليين الذين يبحثون عن حلول لمواجهة حالة عدم الاستقرار فى بلاد الشام، واستمرار حالة الانقسام الفلسطينى، وتنامى احتمالات انهيار «السلطة الوطنية الفلسطينية».
وقد نفت الأردن رسمياً وجود أى نوايا للتوسُّع الجغرافى على حساب دول الجوار، نظراً لأن هذا الخيار يضع القيادة الهاشمية فى عدة إشكالات فنية معقدة على المستوى السياسى والاقتصادى والاجتماعى. ومع ذلك، فإن مزيداً من التكامل، إن لم يكن الاستيعاب التام، سيكون له مبرراته ويمكن مناقشته، لا سيما فى ظل عدم وجود بدائل قابلة للتطبيق. يُعبّر سيناريو «الأردن الكبير» عن تفكير استراتيجى عميق ومتراكم، يُعززه شعور عام بأن إخفاق نموذج الدولة وحالة التفسُّخ فى الهوية الوطنية فى العراق وسوريا سيجرّان المنطقة إلى فوضى طويلة الأمد، فقد أثبتت التجربة العملية فى العراق أن أشكال الوحدة الممكنة، والتوافق على قاعدة «المُحاصصة» لم تعد حلولاً مُجدية. وليس الحال بأفضل من ذلك على الجانب الفلسطينى، فحالة الانقسام مستمرة. وفى ظل الأزمات التى تفتك بسلطة الرئيس محمود عباس، لا مبالغة فى القول بأن انهياراً وشيكاً لهذه السلطة أصبح غير مستبعَد، إن لم يكن مُتوقَّعاً.
ويسود انطباع فى الشرق الأوسط بأن فكرة توسُّع الدور الأردنى هى محل ترحيب أمريكى وإسرائيلى، وذلك على اعتبار أن الأحداث الحاصلة فى المنطقة تُشكّل فرصة جيواستراتيجية مهمة لضمان أمن مستدام لإسرائيل، وأن «الأردن الكبير» يُمثّل أحد الخيارات الممكنة لتحقيق هذا الأمن. وعلاوة على ذلك، فإن مخطط الأردن الكبير يقدم بديلاً أكثر ملاءمة من خطة «الوطن البديل» التى تتبناها دوائر بعينها فى إسرائيل، والتى تُلزم الأردن بتحمل المسئولية لإعادة توطين فلسطينيى الشتات داخل حدودها.
كما يُنظر إلى التشكيل الجديد للمنطقة باعتباره مخرجاً للإدارة الأمريكية المقبلة التى يمكن أن تقوم بإعادة تشكيل الشرق الأوسط كوسيلة للخروج من الأزمة الراهنة التى تمر بها البلاد. وقد يُعتبر مشروع «الأردن الكبير» مريحاً لروسيا أيضاً، لتناسقه مع التزاماتها الأمنية تجاه إسرائيل، وعدم تعارضه مع المصالح الاستراتيجية الروسية.
وليس مُستبعَداً أن تقبل بعض الدول العربية وبعض دول الخليج بمثل هذا الخيار لاحتواء الاختراقات الإيرانية، ومنع إيران من تفعيل المزايا الجيواستراتيجية لبوّابتى الأنبار ودرعا، أو إحداث تغييرات ديموغرافية عميقة ومستدامة فى هذه المناطق. كما تخشى الدول العربية من أن استمرار الوضع الراهن سيؤدى إلى تحوُّل مناطق جنوب سوريا وغرب العراق إلى بؤر لإنتاج المخاطر الأمنية بشتى أنواعها، ومن ثم تسرّبها إلى الأردن وشبه الجزيرة العربية. ويُعتبر الأردن نموذجاً للدولة الناجحة إدارياً على الرغم من التحديات الكبيرة التى تُواجه استقراره، ويُسهم التعريف الهوياتى الفضفاض، والجغرافيا الأردنية المُتغيرة تاريخياً، وطبيعة الإرث التاريخى الهاشمى ذى الجذور الممتدة إلى «سوريا الكبرى» والعراق، فى تسويغ الفكرة، كما يُعدّ نموذج الاعتدال والبراجماتية الهاشمى أحد عناصر قوة السيناريو.
أما على المستوى المحلى فى هذه الأقاليم، فقد أدى الافتقار إلى سلطة سياسية أو قيادات فاعلة تُنظم العمل بداخلها إلى تحوُّل الأردن إلى عاصمة لمعظم فعالياتها، فالمُكوّن السكانى والعشائرى فى جنوب سوريا وغرب العراق منسجم إلى حد بعيد، وممتد داخل الأردن. وتبدو الإدارة الأردنية لمسرح الحدث واضحة فى جنوب سوريا، إذ تُراعى جميع الأطراف حالياً الخطوط الحمر الأردنية. وقد نجحت تجربة الأردن مع المكونات العسكرية فى جنوب سوريا أكثر من تجربة تركيا وقطر فى شمالها، حيث تم عزل ومحاصرة القوى المتطرفة فى الجنوب.
أما فى غرب العراق، فالمكون العسكرى يرتبط مباشرة بمجلس العشائر الذى يرتبط بدوره بعلاقات سياسية وتنسيقية جيدة مع الأردن. وعلى الرغم من أن الوجود الأردنى يخضع لحسابات معقدة، فإن مساعى الأردن لتحقيق الأهداف السياسية والأمنية تتم مزاوجتها مع تأمين قدر من الحماية والرعاية للسكان المحليين. ومن ناحية أخرى، أن استقرار الأردن ليس مضموناً، وقد حذّر عدد من المحللين الإقليميين من صعوبة الحفاظ على الاستقرار فى الأردن ضمن حدودها الحالية، فالموارد الطبيعية الحالية غير مستدامة وتتطلب نهجاً جديداً وغير تقليدى لمعالجة الاقتصاد الأردنى والبنية التحتية. وتطرح النخبة الأردنية الحالية مخاوف ترتبط بالهوية، ويخشون من ذوبان الأردن فى محيطه الديموغرافى. وعلى الرغم من ارتباط سكان جنوب سوريا وغرب العراق اجتماعياً ومذهبياً بالأردن، فإن الإشكالية تكمن فى تفكيك علاقتهم مع سوريا والعراق، حيث يرتبط جزء كبير منهم بالمنظومة الاقتصادية لبلدانهم، ولا يُمكن فى الظرف الراهن التنبؤ بكيفية تجاوبهم مع فكرة الانفكاك عن بلدانهم الحالية. ومن الواضح أن الاهتمام الإقليمى المتجدد بسيناريو «الأردن الكبير» يحركه انعدام البدائل، وذلك فى خضمّ صراع إقليمى يستعصى على الحل. وباستثناء بعض الفصائل الكردية، لا توجد تصريحات علنية من جانب أطراف النزاع المحليين فى سوريا والعراق تؤشر على صياغة واقع جديد فى البلدين رغم إدراك الجميع بعدم جدوى استمرار الوضع الراهن. ومن ثم، فإن غياب وجود قوة إقليمية مؤثرة، قد يحوّل جنوب سوريا وشمال العراق وربما فلسطين إلى أراض ينعدم فيها القانون، وهو ما يشكل تهديداً حقيقياً للأردن ومحيطه. وعلى الرغم من تلك المصاعب ستحتاج الأردن إلى بسط نفوذها السياسى والاقتصادى والأمنى داخل المنطقة، وذلك لتفادى هذا الاحتمال. فالأردن هى واحدة من عدد قليل من الكيانات التى يمكنها أن تملأ فراغ القوى فى الإقليم لحين تبلوُر حلول ومقاربات سلمية تُرضى جميع أطراف النزاع، وذلك من خلال تشبيك المصالح الاقتصادية لهذه الأقاليم مع السوق الأردنية، وتسهيل الحركة عبر المنافذ الحدودية، وميناء العقبة، والمطارات الأردنية، مع هذه الأقاليم إلى دول الخليج العربية. وذلك بالتوازى مع تشجيع الأردن على القيام بدور أكبر فى مواجهة المخاطر الأمنية والتنظيمات الإرهابية فى عمق هذه الأقاليم. وإذا كان «الأردن الكبير» أفضل الخيارات السيئة الممكنة أمام صُنّاع القرار فى المنطقة والعالم، فإن تبنّيه يستلزم تهيئة الهياكل والشروط المناسبة لإنجاحه مع الإبقاء على الخيارات الأخرى (لمواجهة الإرهاب، والفوضى الإقليمية) قائمة، لأن نجاح مثل هذا الخيار يتطلب مرحلة طويلة ومعقدة من الإنضاج والتمهيد تتكيف مع التغيرات السريعة والمتواترة فى منطقة الشرق الأوسط.