معتز بالله عبد الفتاح
فكر التطرف الطائفى العنيف دائماً موجود لكنه يزدهر حين تُترك له الساحة، وفراغ السلطة فى العراق وسوريا مع تقاطع مصالح الفعالين الإقليميين والدوليين أنتج هذه البيئة الخصبة لداعش الفكرة وداعش التنظيم.
من وجهة نظر نظام «بشار» وجود «داعش» كان مفيداً، لأنه رسالة إلى العالم بأن البديل عن «بشار» هو نظام حكم طائفى متطرف سيهدد المنطقة بأكملها وفى القلب منها إسرائيل صديقة الغرب المدللة، ومن وجهة نظر إيران والشيعة بصفة عامة، فإن «داعش» هى نقطة البداية فى معركة «سنية - سنية» تترك المساحة الأكبر لإيران كى توطد نفوذها فى العراق وسوريا والجزيرة العربية أثناء ما السُنة منهمكون فى معاركهم البينية، ومن وجهة نظر تركيا فإن «داعش» هى الخطر الأكبر على الأكراد الذين سيدخلون عليهم كالجراد المنهمر الذى يدمر أراضيهم، فينكفئ الكرد على أنفسهم ويخشون على بقائهم أكثر من تطلعهم لبناء دولة كردستان التى تشمل مساحة 15 إلى 20 فى المائة من مساحة تركيا، ومن وجهة نظر بعض القوى العالمية والعربية، ربما تنجح «داعش» فى أن تقوض أركان حكم الشيعة فى العراق و«بشار» فى سوريا وتكون معول هدم لهما، بحيث تتحسن شروط التفاوض مع هذين النظامين بعد أن يضعفا وهما يقاومان الهجمة «الداعشية» عليهما.
ولكن كما حدثنا «هيجل» عن «دهاء التاريخ» وكما حدثنا نجيب محفوظ عن «عبث الأقدار» وكما حدثنا «باريتو» عن «النتائج غير العقلانية وغير المقصودة للقرارات التى نفترض فيها العقلانية» تدخل المنطقة فى كتلة من التفاعلات غير المقصودة وغير المخطط لها، ما حدث من الناحية الفعلية هو أن «ثعبان» داعش كبر وطمع وانتشر بأكثر مما كان يتوقع كل هؤلاء، فتمرد التمثال على صانعه، كما تقول الأساطير اليونانية القديمة، وبدلاً من أن يكون معول هدم للعدو، من وجهة نظر كل فاعل إقليمى أو دولى، أصبح لـ«داعش» إرادة مستقلة تعادى الجميع ويخشى أن يتورط فيها ومعها الجميع، تركيا كانت تريدها حرباً «داعشية - كردية» ولكنها الآن مطالبة من أمريكا وحلفائها فى «الناتو» بأن تتدخل لنصرة الكرد المعتدلين من وجهة نظر أمريكا و«الناتو»، لكنهم هم أنفسهم الكرد الذين يشكلون العدو الأكبر لوحدة الدولة التركية.
إيران والشيعة كانت تريدها حرباً «سنية - سنية» ولكنها الآن اكتشفت أن الوحش الداعشى إن نجح، فسيكون عدواً لا يمكن الاستهانة به، والدول العربية، ومن ضمنها مصر، ترى الخطر قائماً، لأن النموذج قابل للتكرار بأن يقوم كل مجموعة من المتطرفين بإعلان «داعش» فى منطقة ما داخل حدود الدول العربية المترهلة والرخوة والهشة على نحو ما اكتشفنا فى مرحلة الثورات والانتفاضات العربية. مقاتلو «داعش»، وفقاً لتقارير المخابرات المركزية الأمريكية المنشورة، نحو 30 إلى 35 ألف جندى، لكنهم يتمتعون بروح معنوية عالية وعقيدة قتالية لا يتمتع بها من يواجهونهم، عدد مقاتلى الكرد فى العراق نحو 200 ألف جندى، ولكنهم أقل تدريباً وتسلحاً ولديهم نزعة للانسحاب من المدن والقرى المختلفة أكثر من ثباتهم للدفاع عن أراضيهم، «داعش» قابلة للتمدد والانتشار إن لم تجد مقاومة على الأرض، وليس فقط ضربات جوية، تلاقت إرادات الدول على وجود «داعش»، ولا بد أن تلتقى إرادتها للقضاء على «داعش».
يحلل عبدالعزيز التويجرى موقف الأطراف المختلفة من داعش فيقول: «المسئولون والمحللون السياسيون الغربيون مجمعون على أن هزيمة تنظيم «داعش» الإرهابى، ستستغرق عقوداً وليس بضع سنوات، وعند إنشاء التحالف الدولى ضد الإرهاب قبل ثمانية عشر شهراً، قال عدد من الساسة الأمريكيين إن القضاء على «داعش» لن يتحقق فى المدى القريب، وإنما بعد مضى فترة لن تتعدى ثلاث سنوات، بينما قال الرئيس أوباما إن الأمر سيتطلب عقداً من الزمن. وفى خضم هذه التوقعات المتناقضة، وفيما يعلن المسئولون الغربيون أن التنظيم الإرهابى خسر ما بين 30 و40 فى المائة من الأراضى التى كان يحتلها فى العراق وسوريا، فإن بعض التقارير يفيد بأن «داعش» تمكن من ابتكار أساليب جديدة لتعويض القصور لديه، منها استخدامه أنفاقاً تحت الأرض ووسائل إخفاء أخرى، وطائرات صغيرة دون طيار، وأسلحة كيماوية.
وهو الأمر الذى يعنى أن «داعش» يمتلك مصادر قوة ضاربة، ويخطط للبقاء والتوسع فى العراق وسوريا، إلى جانب تغلغله فى مناطق من ليبيا وسيطرته على موانئ نفطية فيها، مما بات يهدد الأمن فى هذا البلد العربى الأفريقى وضفتى المتوسط على نحو بالغ الخطورة أخذت دول المنطقة تحسب له حسابها.
هذا الفشل الذريع فى الجهود الدولية للقضاء على التنظيم الإرهابى «داعش»، على الرغم من تسخير هذه الإمكانات الهائلة، وحشد أكثر من ستين دولة فى التحالف الذى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، يثير العديد من الأسئلة التى تحار الألباب فى إيجاد أجوبة مقنعة عنها، مما يثير الشك فى مصداقية الجهود التى تبذل على أكثر من صعيد، من أجل محاربة الإرهاب الذى يحصرونه فى «داعش»، وكأن الإرهاب فى المنطقة لا يمارسه سوى هذا التنظيم، وليس ثمة طرف ثانٍ وثالث وربما رابع يمارس الإرهاب، أو يشجع عليه.
الشك فى مصداقية العمل الذى يقوم به التحالف الدولى لمحاربة «داعش» يدفع بنا إلى الربط بين تصريحات القادة السياسيين الأمريكيين والأوروبيين، حول استحالة القضاء على «داعش» فى أمد قصير، وما تذيعه التقارير عن التطوير الذى تعرفه الأساليب التى يستخدمها، فينمى بها قدراته، ويوطد أقدامه على الأرض التى استولى عليها، فكيف يصح أن «داعش» خسر نسبة تزيد على الثلث من الأراضى التى احتلها وأدخلها تحت نفوذه، بينما هو يثبت يوماً بعد يوم، أنه يملك قدرات هائلة تجعله يمارس الإرهاب على نطاق واسع، ويهدد مناطق أخرى بالاكتساح من سوريا والعراق، ويمد نفوذه إلى ما وراء البحر فى ليبيا وما حولها؟ أليس هذا التناقض المريب هو ما يفتح لنا المجال لطرح السؤال المحورى فى هذا الموضوع، وهو: هل أمريكا ومعها القوى العظمى الأخرى، جادة كل الجد فى محاربتها للإرهاب؟ وهل من مصلحة أمريكا ومن معها أن يتم القضاء على «داعش» نهائياً؟ أم أن مصلحتها ومن معها تكمن فى بقاء هذا التنظيم ينشر الرعب فى المنطقة، ويحقق الأمن لإسرائيل والتغول لإيران؟
وإذا كان التحليل الموضوعى للأحداث لا يستقيم مع توجيه الاتهامات من دون حجج دامغة، فخطورة الوضع على الأرض، وأمام تفاقم الأزمة، وفى ظل العجز التام عن تحقيق أى هدف من الأهداف المحددة للتحالف الدولى لمحاربة الإرهاب، تستوجب أن نحدّد المسئولية، وأن نعلن للرأى العام أن التنظيم الإرهابى «داعش» قوة عجيبة غريبة عجز المجتمع الدولى عن القضاء عليها، وأن المستقبل لا يبشر بالقضاء عليها، وأن على دول المنطقة، وهى الدول العربية وتركيا التى يستهدفها هذا الإرهاب، أن توطد العزم على مواجهة هذا الخطر فى شكل أكثر ضراوة ودون تعويل على أمريكا ومن معها، فأمن هذه الدول ووجودها أصبحا فى خطر شديد، فى ظل تواطؤ إيران وإسرائيل مع هذه المؤامرة التخريبية».