معتز بالله عبد الفتاح
تحدثنا عن محطات ست سابقة شهدت تراجعاً فى حضارة المسلمين بدءاً من تراجع الشورى لصالح المُلك العضوض، وتراجع العالِم الناقد لصالح العالم الذى يمارس التقية، وتراجع العقل لصالح النقل، وتراجع شرعية العدل لصالح شرعية القوة، وتراجع دولة العلم والابتكار لصالح الدعة والسكون، وصولاً إلى أخطاء الدولة العثمانية وما انتهت إليه من استعمار نال كل المجتمعات المسلمة بلا استثناء إلا قلب الجزيرة العربية.
والآن لنا موعد مع أخطاء ما جاء بعد الاستقلال.
هذه المحطة السابعة هى مسئولية الجيل السابق على الأحياء منا مباشرة، لأنهم استبدلوا استبداد الاستعمار الأجنبى باستبداد محلى قائم على تحالف السلطة والثروة والإكراه، عادةً ما يأخذ شكل حزب حاكم (السلطة) يرفع شعارات اشتراكية أو شبه اشتراكية (الثروة) بالتراضى مع الجيش والبوليس (الإكراه). وباسم الشعب: تم تأميم الدين. فبدلاً من العلمانية الليبرالية التى تعنى الفصل المؤسسى بين السياسة والدين، أصبح علماء الدين موظفين لا ينطقون إلا بما يوافق توجهات التحالف الحاكم، وباسم الشعب، قضى على الأحزاب أو حاصرها، وباسم الشعب، قتل المجتمع المدنى بالسيطرة الأمنية على مؤسساته، وباسم الشعب، أمم الصحافة أو أفسد القائمين عليها بتوجيههم حيث يخدم مصالح التحالف الحاكم، وباسم الشعب دخل المعارك، فخسر معظمها وتكبد المجتمع أسوأها (خسرت مصر 20 ألف جندى فى حرب سنة 1967 فى حين خسرت إسرائيل 150 جندياً)، وباسم الشعب تم تكريس الحدود التى تركها الاستعمار، وحافظت عليها النخب التى تدعى الوحدة والتكامل والقومية؛ فحدثت مفارقة علمنة بلا علم، وتمدن بلا مدنية، وتعليم بلا ابتكار، وتقدم مظهرى وتخلف هيكلى، وسيطرة الأشخاص وتراجع المؤسسات.
لقد شهدت مجتمعاتنا ملامح التقدم المظهرى وأسباب التخلف الهيكلى كما يقول سمير أمين، فلدينا إنفاق شديد على الدروس الخصوصية وهذا ليس إنفاقاً على العلم ومن أجل العلم وإنما على الشهادات ومن أجل الشهادات، كما يقول أحمد زويل. ولدينا اهتمام بتسجيل المواقف أكثر من اهتمامنا بإيجاد حلول عملية للمشكلات، كما يقول فؤاد زكريا.
وكان لدينا تحديث مادى دون ديمقراطية، وعلمنة بلا احترام أصيل لقيمة العلم، وتعليم بلا تفكير نقدى أو بناء مهارات، وانتقال إلى المدينة بلا تمدن حقيقى، وتحول للرأسمالية بلا احترام لأخلاقياتها، كما يقول على مزروعى.
وعليه فقد شهدت الحضارة الإسلامية تراجعاً شديداً فى مسارات التحضر الستة الكبرى: مسار سياسة الحكم والمال وإدارة الدولة، ومسار الثروة والإنتاج والتراكم الرأسمالى، ومسار العلم والتكنولوجيا والقدرة على الابتكار، ومسار النظر والفكر والتطور الثقافى، ومسار الحرب والسلاح وإدارة الصراعات، ومسار القيم والأخلاق والمبادئ.
كان الأمل فى أن تكون الثورات والانتفاضات العربية فرصة لأن يتعلم الأحياء من أخطاء السابقين وأن يخضعوا الإرادة السياسية للإرادة الشعبية، لكن هذه بذاتها تحتاج نخبة أكثر نضجاً وثقافة سياسية أكثر تسامحاً مما تعرفه مصر الآن.
وسيكون هذا موضوع المقال القادم والأخير فى هذه السلسلة إن شاء الله.