من آن لآخر ألتقى بشباب يقولون لى إنهم يتابعوننى على «فيس بوك وتويتر»، ويلوموننى لأننى لم أعد نشيطاً عليهما كما كنت من سنتين. وعندى عدة ملاحظات:
أولاً، التواصل الاجتماعى غير التواصل السياسى. نحن نفعل فى أنفسنا جريمة حقيقية حين نناقش قضايا فى منتهى التعقيد بهذا الكم من الاستخفاف. حين نتواصل بشأن قضايا اجتماعية مثل الصداقة أو الرياضة أو الكوميديا أو تناقل الصور والذكريات وعادات الشراء والبيع وأخبار السيارات والموضة وغيرها، فأدوات التواصل الاجتماعى تتحمل هذا لأنها أداة لم تصمم أصلاً لحوارات عميقة ومركبة تتطلب قدراً من الثقافة أو القراءة والتحليل إلا فى مجموعات مغلقة ومتخصصة فى مجال ما، مثلما أفعل مع طلابى أو مع فريق عملى. هى أداة «اجتماعية» حولناها إلى «سياسية» ونحن لا نملك المعرفة السياسية أو بروتوكول الحوار السياسى السليم.
ثانياً، هى أداة تركيز رهيب لأسباب الإحباط والفشل واليأس والأخبار «المهببة» التى تأتى بالتوتر وبالاكتئاب وبميول انتحارية وربما بالانتحار نفسه. من قرأ قليلاً فى علم النفس يعرف أن واحدة من نصائح الأطباء النفسيين أن تتجنب «الأشخاص السلبيين» أى أولئك الذين يرون فى كل فرصة مشكلة، وفى كل علاج معضلة، وفى كل أمل خيبة أمل. الإحباط مُعدٍ (من العدوى) والأمل مُعدٍ. كثير من عشاق «فيس بوك» والإخوة «المتوترين» (أى عشاق «تويتر») يتبارون فى تركيز وتغليظ وتحميص وتفخيم الطاقة السلبية وتقديمها فى تعليقات ونكات تُخرج منهم طاقتهم السلبية لكنها تنتقل منهم إلى غيرهم فتصيب أقواماً بكآبة قد تفضى إلى ما لا نتوقع ولا نحب.
ثالثاً، الهستيريا الفردية والجماعية على وسائل التواصل الاجتماعى تجعل الإنسان يفقد قدرته على تحديد الصواب من الخطأ، وبدلاً من أن يسهم فى قيادة الرأى العام يتحول هو إلى أداة فى آلة عشوائية (مُعشْوأة) ارتجالية من اللامعنى أو التركيز. وبصراحة ومع كل الاحترام لأى طالب مجتهد فى سنة ثانية كلية التجارة طالع بمادتين يدخل على صفحتى يسبنى بالأم أو الأب لأننى لا أتبنّى وجهة نظره، فأنا لست موجوداً فى الدنيا لأكتب ما يسعدك حتى لو على حساب ما أراه صواباً. أمثال هذا الشخص، مع التقدير لشخصه، مصيره الواضح والواحد والمستقر فى ضميرى وبلا أى تردد هو «البلوك المتين» تحت شعار «زين، زين» (أى: «زحلق الزبون»).
رابعاً، أنا اكتشفت من سنة أن عندى قائمة بـ16 كتاباً اشتريتها «أون لاين» وقابعة على جهازى ولا أجد وقتاً كافياً لقراءتها، فهذه الكتب تعبر عن دراسات وخبرات مجتمعية وحياتية مهمة فى كيفية تقدم المجتمعات وحل المشاكل وهى أولى مائة مرة من النميمة الاجتماعية والسياسية بشأن «انظر قبل الحذف: فستان الممثلة الفلانية يقع منها على المسرح». بل أصبح عندى وقت أقرأ فيه أسبوعياً «الإيكونوميست والنيويوركر»، وهما مصدر لإلهام وأفكار تصلح البلد دى أفضل مليون مرة من حكاوى القهاوى الصباحية المسائية التى تجعلك تصل إلى نتيجة واحدة ووحيدة: «ما فيش فايدة». والمعنى ليس «ما فيش فايدة» فى المشاكل. أبداً والله العظيم، مشاكلنا هى مشاكل كل المجتمعات «المتخلفة» عن ركب الحضارة والتى يمكن أن تلحق به، لكن التخلف حقيقة هو تخلف العقول التى تضيع أثمن ما تملك فى أتفه ما تستطيع.
خامساً، هناك مقولة شائعة عند الفرنجة الملاعين: «هل تريد أن تصنع أموالاً كثيرة من الفيس بوك؟»
الإجابة: «اقفله وروح اعمل حاجة مفيدة».
سادساً، أدوات التواصل الاجتماعى هى أنبوبة توصيل: توصل الخير وتوصل الشر، توصل الأمل وتوصل القرف، توصل العلم وتوصل الجهل، توصل العمل وتوصل الكسل. لكن نحن نفضل الشر والقرف والجهل والكسل على الخير والأمل والعلم والعمل. طيب ليه انتم بتلوموا على بقية الشعب ما دام فيكم ما فيهم من صفات سلبية «أنتم إذن مثلهم» إلا من رحم ربى.
سابعاً، هل أرى يوماً، بس ده مش موجّه خالص للشباب المصرى اللى مش فاضى يهرش من كتر ما هو قاعد فى الغرزة اللى اسمها تويتر وفيس بوك، شباب من أى منطقة يعملوا جروب صغير على فيس بوك للاتفاق على كيفية تنظيف أو تشجير ستة متر وربع (فقط لا غير، لحسن تتحسدوا) أمام العمارة بتاعتهم؟
طبعاً، لأ مستحيل. إزاى يعنى؟ إزاى نعمل كده وفلان مات، وعلان فى السجن، والثورة المضادة انتصرت، والفلول راجعين، و«الرئيس الأسير» مرسى ما رجعش لسه؟
على رأيك، لمّا كل الحاجات دى تتحل الأول، نبقى نفكر فى أى عمل تطوعى لخدمة البلد. خليها تخرب، وإحنا مالنا، «إردب ما هو لك، ليه تحضر كيله، تعفر فى دقنك وتتعب فى شيله» كما قال الفيلسوف المصرى العتيق «فهلوى». وكما قال أحدهم على فيس بوك مرة: «مصر دى أصلاً مش بلدنا، إحنا موجودين فيها فترة إيجار قديم لغاية ما نشوف حتة نروحها». وقال آخر: «الله، الوطن، الهجرة».
ثامناً، كليهما خطر: النظرة المثالية والنظرة التشاؤمية، كلتاهما تنتهى بك لأن تفعل لا شىء إلا تشويه الحاضر وتشويه كل الموجودين فيه على نمط قصة «المرتبة المقعرة» التى كتبها د.يوسف إدريس، والتى جسد فيها لنا شخصاً يحب الحياة ويكره أن يعمل لها أو فيها. فقد رأى العالم من حوله فاسداً وقميئاً ولا يتناسب مع معاييره الأخلاقية المثالية أو نظرته التشاؤمية الإحباطية فقرر أن ينفصل عنه إلى أن يتغير هذا العالم المتوحش، فانتهى إلى عدمية مقيتة. نام الرجل على سريره وطلب من زوجته ألا توقظه إلا إذا تغير العالم. وظل يسألها يومياً، هل تغير العالم؟ وكل يوم تنظر من الشباك لتعود وتقول له: «لا، لم يتغير شىء». ثم ينام ويستيقظ ويسأل ثم ينام ويستيقظ ويسأل حتى انتحر أو مات. وهنا قالت زوجته: «الآن تغير العالم بأن تخلصنا من شخص كسول أهم ما فعل فى الحياة أنه كان عبئاً عليها فتخلصت منه».
هذه القصة تقول إن العالم يتغير حينما نساهم فى تغييره. وعليه فهناك نوع من البشر يغير العالم الذى يعيش فيه، وهناك ثانياً من يشاهدون العلم يتغير أمام أعينهم سواء للأحسن أو الأسوأ وهم لا يملكون له حيلة كأنهم ضيوف على كونهم ليسوا جزءاً منه به، خلقهم الله بشراً فأرادوا أن يعيشوا أنعاماً. وهناك ثالثاً من لا يعرفون حتى إذا كان هناك شىء تغير أم لا، واخترع المصريون نوعاً رابعاً، وهم من يكتبون على الفيس بوك وتويتر عن أسبابهم وخواطرهم ورؤاهم بشأن لماذا العالم «وحش» وإحنا مخاصمينه.
قالها إيليا أبوماضى:
هو عبء على الحياة ثقيل، من يظنّ الحياةَ عبئاً ثقيلاً
والذى نفسه بغير جمال، لا يرى فى الوجود شيئاً جميلاً
فتمتّع بالصّبح ما دمت فيه، لا تخف أن يزول حتى يزولا
وإذا ما أظلّ رأسك همّ، قصّر البحث فيه كيلا يطولا
تاسعاً، من عنده وجهة نظر أخرى، له منى كل الاحترام.
شباب.. سامحونى، لو كنت بايخ فى المقال ده. بس إنتم تعنونى، وأزعل لما أشوف جزء منكم يدمنون الإحباط. ما تستسلموش. وأترككم مع ثلاث آيات:
«سيجعل الله بعد عسر يسراً».
«لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً».
«ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدراً». صدق الله العظيم.
شوية إخلاص وهمّة، وسيبوا الباقى على الله. هو هيوفقكم لما يلاقيكم أخذتم خطوة، أى خطوة، فى الاتجاه الصحيح. «وما ذلك على الله بعزيز».
«وستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد». صدق الله العظيم