معتز بالله عبد الفتاح
نظن أحياناً أن الطريق الوحيد لصناعة الديكتاتور هو المبالغة فى مدح شخصه ونسبه وشكله وكلماته وأفعاله وإشاراته فننتهى إلى ما قاله العامة فى نهاية مسرحية «الزعيم» للحاكم الجديد: «أنت الفارس وأنت الحارس أنت مفجر ثورة مارس، ابنِ لنا مستشفيات ومدارس، وقل للعفاريت حابس حابس». (شعر بهاء جاهين).
ولكن هناك طريقاً آخر نغفله أحياناً رغماً عن أنه يمكن أن يفضى إلى نتيجة أشرس وديكتاتورية أعنف وهو طريق «إشاعة الفوضى» سواء كانت فوضى الشائعات أو فوضى المبالغات أو فوضى القلاقل والاضطرابات.
وهذه ليست تقاليد مصرية فقط وإنما هكذا كان الحاكم الديكتاتور فيما يشبه «قانون قابل للتعميم». ولنعط مثلاً بـ«لويس الرابع عشر» كواحد من أواخر حكام أسرة البوربون فى فرنسا قبل الثورة الفرنسية. وكان رجلاً عزوفاً عن السياسة والحكمة فى فترة شبابه رغماً عن أنه كان بالفعل الملك، ولكن كان مهتماً بالآداب والفنون، وفى عهده تم بناء قصر فيرساى، لكنه ترك شئون الحكم لوزيره الأول. ولكن مع وفاة هذا الوزير ثم مع الاضطرابات الحادة فى عهده وصولاً إلى اقتتال أهلى بما أفضى إلى شلل فى إدارة الدولة وصولاً إلى تمرد الجنود، هنا ظهر الوجه الآخر لرجل لم يمكن يسمع إلا المديح من حاشيته ليصبح واحداً من رموز الاستبداد فى فرنسا بمقولته الشهيرة: «L’ÉTAT، C›EST MOI». أى «الدولة هى أنا». وكان ذلك فى إشارة منه لأنه لم يعد يعبأ بقوانين أو مؤسسات حكم أخرى فى الدولة. هو قرر أن يتبنى منطق فرعون: «مَا أُرِيكُمْ إلا مَا أَرَى».
ومن هنا كانت الثورات ضد أسرته والتى قضت على الديكتاتورية بعد مائة عام تقريباً على أربع مراحل.
وأرجو ألا يظن ظان أننى بهذه الكلمات أبرر استبداد المستبد أو ديكتاتورية الديكتاتور، ولكن علينا أن ندرك أننا نخلق المستبدين حين نبالغ فى مدحهم، وكذلك حين نبالغ فى ذمهم. أو كما قال المرحوم الشيخ الشعراوى:
لا توطن نفسك على المعارضة بلا إنصاف، فدوام الخلاف من الاعتساف.
ولا توطن نفسك على الموالاة بلا استحقاق، فدوام الوفاق من النفاق.
وهذه تحمل نفس معنى العبارة اليونانية القديمة التى يقول فيها الفيلسوف للأمير: «أنا ناصحك إن سألت، وأنا نصيرك إن عدلت، وأنا خصيمك إن ظلمت».
إنما أنا خصيمك دائماً، سواء أحسنت أو أسأت، أو أنا نصيرك دائماً سواء أحسنت أو أسأت، أنا سأعارضك دائماً بلا أى إنصاف وبكل اعتساف، أو أنا نصيرك دائماً بلا أى استحقاق وبكل نفاق. هذا هو الطريق الذى أشار إليه الكواكبى بقوله: «المستبد لا يحكم إلا مستبدين».
الثورة المصرية وما تبعها كشفت استبدادنا لنا، وأوضحت أن المعضلة لم تكن فقط «مبارك». كل ما فى القضية أن «مبارك» كان من السيطرة على مؤسسات القمع بحيث إنه كان المستبد الأكبر، وكان أغلبنا من الغفلة لدرجة أننا اخترنا أن نحيا وكأننا ضحايا، فى حين أننا لا نقل استبداداً عنه حتى وإن كانت قدرتنا على ممارسة الاستبداد مكبوتة لوجود المستبد الأكبر، أما وقد اختفى حكمه، فسعى الجميع للاستبداد بالجميع، ولهذا اعتبر أرسطو أن الديمقراطية نظام استبدادى، لأنه استبداد الدهماء الذين لا يحترمون القانون ولا يحترمون حقوق الآخرين. الديمقراطية من غير أخلاقياتها وقوانين عملها تعنى الفوضى، وستستمر الفوضى إلى أن يأتى مستبد جديد أو نعرف أننا مستبدون نخلق المستبدين.
الحكم فى مصر نوع من القهر المتبادل، والأشطر من يقهر أسرع وأكثر وأمهر. مع الأسف.
"الوطن"