حتى إن بدا أن صفحة قديمة قد طويت، وصفحة جديدة قد فتحت مع الرئيس الجديد، لكن الكثير من الماضى يفرض نفسه على الحاضر، وكل المستقبل هو جزء أصيل من مشكلات الحاضر.
ثورة 25 يناير، وبالمناسبة أوجه كل التحية لكل من شارك فيها، مخلصاً لله والوطن، وآملاً فى وضع أفضل لوطنه ودولته، وأعتبرها مهما قيل عنها واحدةً من أعظم ملامح الإرادة الشعبية المصرية فى آخر مائة عام، حتى إن انحرفت عن مسارها لأسباب يمكن أن نتجادل بشأنها، أقول إن هذه الثورة كانت تعبيراً صادقاً عن صراعات أظن أنها لم تحسم بعد. ولا أعرف إن كانت الرئاسة أو أى من مؤسسات الدولة تملك رؤية بشأنها. أسرد هنا الصراعات العشر التى أنتجت الثورة، وأقول إنها لم تزل قائمة.
هناك أولاً صراع «علمانى - إسلامى» على هوية مصر. والبعض يراه صراعاً مفتعلاً؛ لأن مصر هى مصر، ولن يستطيع أن يغيرها كثيراً فى أى اتجاه كان، والبعض الآخر يرى أن المجتمع من الضعف الثقافى والهشاشة الفكرية، بحيث من يسيطر على الدولة سيسيطر بالضرورة على المجتمع. المطلوب الآن هو الدفاع عن الهوية المصرية الجامعة التى لا تسمح لأحد باختطافها أو أدلجتها.
الصراع الثانى هو الصراع بين الأغنياء والفقراء، وهو الذى تجسده عبارات «العيش والعدالة الاجتماعية». معدل الفقر فى مصر عالٍ، وفقر الفقراء فى مخيلة البعض يرتبط بثراء الأثرياء فقط، وأنه لو تمت إعادة توزيع الدخل فى مصر لأصبح الفقراء غير فقراء. الحقيقة هذا غير صحيح. معدل الفقر فى مصر كبير ويتزايد لأسباب كثيرة من ضمنها سياسات خاطئة من الدولة لفترة طويلة، ومنها تداخل السلطة مع رأس المال، ومنها معدلات زيادة سكانية عند الفئات الأكثر فقراً والأقل تعلماً بما يزيد الأمر سوءاً لهؤلاء. ومن يدرس ظاهرة الفقر فى مصر أكاديمياً يكتشف أن المسألة لن تحل بقرار حكومى، سواء ارتبط بإعادة توزيع الدخل أو تغيير نظام الضرائب، أو وضع حدين أقصى وأدنى للأجور. المسألة بحاجة إلى استراتيجية قومية تدعم النمو الاقتصادى وتدعم العدالة الاجتماعية كذلك. مشكلة الاعتصامات والإضرابات وقطع الطرق المرتبطة بنقص الخدمات وضعف المرتبات هى المؤشرات الأهم، على أن قضية العدالة الاجتماعية لم تزل فى قمة أولويات الصراع السياسى فى مصر.
ثالثاً: الصراع المدنى - العسكرى الذى لم يزل قائماً، لأن المدنيين الذين قدّموا أنفسهم لقيادة المشهد بعد 25 يناير ارتكبوا كل الأخطاء التى لا ينبغى أن يرتكبها من هو مؤهل لإدارة شئون الدولة. والقضية الآن فى كيفية تربية وتجهيز نخبة مدنية للمشاركة فى تحمل المسئولية قبل لعن الوضع الراهن.
رابعاً: الصراع بين البيروقراطية والديمقراطية، وهو صراع تاريخى، ولم يزل مستمراً فى كل دول العالم بين أولئك الذين يمثلون لوائح الدولة وقيودها وثوابتها الراسخة، وبين المنتخبين جماهيرياً والمساءَلين سياسياً أمام الهيئة الناخبة والرأى العام من التنفيذيين ونواب البرلمان. ومن يرجع لأهم ما كتب لى كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة، عن هذا الأمر، يكتشف أن سر نجاحه هو أنه أخضع البيروقراطية للسلطة السياسية الديمقراطية وأخضع السلطة السياسية الديمقراطية لمعايير الكفاءة البيروقراطية فى تجربة لا تتكرر إلا فى ظل قيادات استثنائية تماماً. وكما جاء فى هذا المكان من قبل أن البيروقراطية ستقتل التنمية كما أن السياسة ستدمر الاقتصاد إن لم تكن لدينا قيادة واعية بهذا الأمر. السؤال: كيف نصنع هذه المعادلة الصعبة بين البيروقراطية والديمقراطية؟
خامساً: الصراع الجيلى بين القديم والحديث، بين الشباب الذى يخرج ليتمرد، لأنه وجد أن الكبار لا يعرفون كيف يديرون البلاد ولا يحققون النهضة التى وعدوا بها ولا يحترمون أرواح الشهداء وتضحياتهم ودخلوا فى صراعات بينية تضيع على البلاد طاقتها وقدرتها على الانطلاق. أزعم أن هناك خطاً زمنياً يمكن تصوره بين أولئك «الكبار» وأولئك «الصغار»، ولكن المعضلة أن الكبار يصدرون للصغار مشكلاتهم وينتجون تلاميذ لهم يسيرون على نهجهم. والأمل هو إنقاذ هؤلاء الجدد من أولئك القدامى بأن يدرك الأصغر سناً القوى الكامنة فيهم وأن يستفيدوا من آراء وتوجهات الأكبر سناً دون أن يكونوا أسرى لصراعاتهم وخلفياتهم وذواتهم المتضخمة.
سادساً: الصراع النوعى بين الذكور والإناث. هناك نزعة لا أريد أن أبالغ فيها بين الذكور للتقليل من شأن الإناث واعتبارهن كائنات أقل فى القدرات الذهنية من الذكور. وحين أتناقش فى هذا الأمر مع بعض أقرانى أسمع ما لا أرتضى، وينتهى بهم الأمر أحياناً إلى أن يكون التفكير «طيب عايزين بنت معانا علشان شكلنا يطلع كويس».
سابعاً: الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، التى تطل برأسها أحياناً ولا ينبغى أن ندفن رؤوسنا فى الرمال بصددها. هناك مشكلة حقيقية عند بعض فئات المجتمع بالذات فى المناطق العشوائية والريفية حول علاقة المسيحيين والمسلمين. وكلمة الصراع هنا ليس معناها العنف، فهذا أكثر أشكال الصراع بروزاً. ولكن الخطاب الطائفى مقلق ويتناقض مع ما يقتضيه دين كل منهم مع الآخر وفقاً لآيات المودة والبر (المذكورة نصاً فى القرآن) والمحبة والتسامح (المذكورة نصاً فى الإنجيل)، لنجد من يحرص على أن يتصرّف كل طرف وفقاً لمنطق التكفير والإقصاء. هذه مسألة تحتاج هى الأخرى إلى تأمل عميق يخرجنا مما نحن فيه من دائرة خبيثة تنفجر فى وجوهنا بين الحين والآخر، لنظرة عامة أوسع على وجهة المجتمع.
ثامناً: صراع بين المركز والأطراف على الموارد المحدودة، وعلى رأسها موارد الأمن والتنمية. القاهرة ومعها عدد من المحافظات الحضرية، وكأنها تحلق منفردة بعيداً عن مشكلات بقية المحافظات التى تعانى أكثر وكأنها ليست جزءاً من مصر. كيف سنتعامل مع هذه المعضلة؟
تاسعاً: صراع النهضة والتخلف، وهو صراع بين فكر وقيم التعليم والتطور والتكنولوجيا والبناء، وفكر وقيم الجهل والأمية والتخلف والهدم. هذه مسألة ثقافية تتطلب أن تكون مؤسسات صناعة الثقافة من تعليم وإعلام ومؤسسات دينية تتبنى خطاباً متكاملاً محفزاً لبناء الإنسان المصرى القادر على مواجهة تحديات الغد، وليس إعادة إنتاج تخلفنا. عاشراً: صراع الاستباحة والريادة الإقليمية.. مصر الآن فى أضعف حالاتها؛ لأنها ضعيفة معتمدة على غيرها إن شاءوا أعطوها وإن شاءوا منعوها. إحكام غلق الحدود ومكافحة التهريب وترميم العلاقات الخارجية على أسس متوازنة ليست طرفاً. هذه كلها صراعات أنتجت ثورة 25 يناير وستنتج ما هو دونها أو أكثر منها إن لم نشرع فى تقديم تصور متكامل لكيفية التعامل معها.
وعلى الله قصد السبيل.