معتز بالله عبد الفتاح
أعجبنى كلام نادراً ما أقرأ مثله كتبه الأستاذ على عبدالمنعم منصور على صفحته فى «الفيس بوك» عن الأستاذ جورج إسحاق السياسى المعروف رغماً عن خلافه معه.
سأنقل كلام «على» ثم أعلق عليه. يقول على:
«متذكر أيام لما كنت تلميذ فى مدرسة القديس يوسف المارونية.. كان مدير المدرسة جورج إسحاق (السياسى المعروف) واللى ناس كتيرة ما تعرفش إنه كان فى الأساس راجل تربوى لفترة طويلة من حياته وكان قبلها مدرس تاريخ.. وفاكر الفترة اللى مسك فيها إدارة المدرسة فى التسعينات كانت مصر ساعتها بتعانى من الضربات الإرهابية المتكررة.. ومتذكر إنه مرة قرر يعمل مسرحية يشارك فيها طلاب من صفوف دراسية مختلفة توضح إن الإسلام مالوش علاقة بالإرهاب.. ومتذكر إنه خد قرار إن الإذاعة المدرسية تبدأ بتلاوة من القرآن الكريم لأول مرة فى تاريخ المدرسة.. وساعتها كلف طالباً صوته جميل جداً إنه يبدأ التلاوة.. والولد بعد ما خلص تلاوة.. كتير من تلاميذ الصفوف الابتدائية قعدوا يصفقوا.. فراح خاطف الميكروفون بسرعة وقعد يزعق لهم وقال لهم حرام نصفق لما نسمع قرآن لأن ده كلام ربنا.. ومتذكر إنه دعا فى يوم من أيام رمضان إن كل طلبة المدرسة المسيحيين يصوموا معانا يوم كامل لحد المغرب.. وفاكر كمان إنه كان مؤمن جداً بالقضية الفلسطينية لدرجة إنه كان بيستضيف كل فترة الكاتب أحمد يوسف القرعى (المتخصص فى الشأن الفلسطينى فى جريدة الأهرام) عندنا فى المدرسة عشان يشرح لنا أهمية القضية وإن إسرائيل هى العدو.. جورج إسحاق كان شخصية تربوية تستحق التقدير فعلاً، رغم اختلافى الشديد والعميق والأصيل مع دوره السياسى فى الفترة الأخيرة..».
اقرأوا حضراتكم الجملة الأخيرة مرة أخرى.
«على» يتذكر للرجل حسناته ويذكرها صراحة ولكنه يتبنى موقفاً مركباً منه فيرى ما يتفق معه، ويرى ما يختلف معه، ويفرق بين الاثنين بوضوح. «على» يتفق ويختلف، وليس «يحب ويكره».
يقول الفيلسوف كارل بوبر: «إن أهم وظيفة للعلم والفلسفة أن تعرف كيف تتفق وتختلف بدلاً من أن تحب وتكره». والمعنى أنك حين تحب، تحب الإنسان بكل ميزاته وقد لا ترى عيوبه. والعكس صحيح. أما التفكير العلمى والفلسفى فلا يحتمل ذلك لأنك تحيّد جانباً، قدر المستطاع، المشاعر لتركز على نقاط القوة والضعف، ومواطن الاتفاق والاختلاف مع الشخص.
لاحظ الشاعر الهندى العظيم محمد إقبال أن القرآن الكريم قال فى نبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، الكثير من المدح الذى يليق بنبى عظيم، ولكنه فى الوقت نفسه عاتبه فى بعض المواقف، والأهم أن الله سبحانه حرص على أن تظل آيات اللوم والعتاب مكتوبة ومرصودة فى القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿َإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وجاء فى آية أخرى ليقول: ﴿وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾.
ولكن لماذا لم يعاتب الله سبحانه وتعالى نبيه سراً بحيث لا نعرف عن هذا العتاب الربانى الحكيم لنبيه العظيم؟
هناك تفسيران أحدهما أنقله عن محمد إقبال، والآخر أقدمه كتفسير إضافى؛ أما تفسير محمد إقبال، الذى يعود فيه إلى علماء وفقهاء سابقين، فهو أن القرآن الكريم أراد أن يقدم بشكل عملى وفى الكتاب المعجز، القرآن نفسه، دليل «بشرية» النبى؛ لأن هناك نزعة عند بعض السابقين أن يخلطوا بين «قداسة المرسِل» (بكسر السين) و«قداسة المرسَل» (بفتح السين) فينسبون إلى الرسول قدسية لم تكن موجودة فى أصل الرسالة. ولكن حين يكون هناك دليل لغوى ملموس وواضح على بشرية الرسول تنتفى عنه القدسية ويظل النبى بشراً. وأضيف فهماً آخر، وهو أن الله سبحانه يريد أن يعلمنا شيئاً من العدل (وربما كذلك العقلانية) فى الحكم على الأشياء والأشخاص، وأن يكون تفكيرنا أكثر تعقيداً من تفكير الأطفال؛ فنرى بعض عناصر القوة فى الحجة الضعيفة، ونرى بعض عناصر الضعف فى الحجة القوية. ونعرف كيف نستفيد من الناس، على عيوبهم، فيما قد يكونون الأقدر فيه. وألا نبالغ فى مواقفنا من الناس.