معتز بالله عبد الفتاح
كتب الأستاذ الدكتور نصر عارف، أحد الباحثين الكبار وأستاذ العلوم السياسية، مقالاً مهماً فى جريدة الأهرام، أمس، يشير فيه إلى الحاجة الملحة لأن يعمل الإعلام والفن وأدوات الثقافة ومعها التعليم والخطاب الدينى فى ظل مشروع تنموى مصرى يخدم قضايا أكبر من مجرد خدمة القائمين على هذه المهن.
يقول الدكتور نصر: «كل يوم يمر، تترسخ فى ذهنى حقيقة مزعجة ومحبطة، وهى أن أهم الأطراف الفاعلة فى المشهد الثقافى المصرى، أقصد أهل الفن ونجوم الفضائيات، ومن يقف خلفهم من صحافة ورقية أو تليفزيونية، هؤلاء جميعاً، وللأسف الشديد، غير قادرين على القيام بمسئوليات ومتطلبات اللحظة التاريخية التى تمر بها مصر الآن، أو غير راغبين فى ذلك، لأسباب تخصهم، ولا نعرفها، والظاهر أمام أى ملاحظ مُنصف، أنهم يعيشون فى عالم ما قبل 30 يونيو 2013، فلا ترى منهم إلا النقد، والصوت العالى، والعصبية، والتركيز على السلبيات فى المجتمع، وتعظيمها، والنفخ فيها، وكأن مصر لا توجد فيها فكرة جديدة، أو رؤية مبتكرة، أو مشروع طموح، أو مخترع شاب أو خبير، وكأن المجتمع والدولة لا يوجد فيهما بقع مضيئة للأمل، وآمال عريضة فسيحة تملأ عقول الآلاف من الشباب والشابات وقلوبهم، وللأسف يغرق الفن والإعلام، ويغرقنا معه، فى الظواهر الشاذة.
وهنا لا بد أن نؤكد أن الفن والإعلام هما أهم وأخطر وسائل تربية الشعوب، وتثقيفها، وتعبئتها وحشدها فى أى عملية تنمية شاملة لدولة مثل مصر، الفن والإعلام هما أهم وأخطر من المسجد والكنيسة، من المدرسة والجامعة، من الحزب والنقابة، من العائلة والنادى، حيث إن هذه جميعها كانت وسائل للتنشئة، والتثقيف، والتعبئة والحشد فى زمن مضى، أما الأن فالدور الأول للفن بكل أنواعه، والإعلام بكل وسائله، ولا تستطيع دولة أن تنهض وتدخل فى عملية تنمية شاملة إلا إذا كان الفن والإعلام فى المقدمة.
والحال فى مصر، ابتداءً من منتصف السبعينات من القرن الماضى، من بعد حرب أكتوبر، دخل الفن والإعلام فى نفق الانفتاح الاقتصادى، حيث تخلت الدولة عن أخطر مواقع الأمن القومى، وهو عملية تشكيل وعى الشعب وصناعة عقله ووعيه وثقافته، إلى القطاع الخاص التجارى، وليس صاحب الرسالة، فأصبحت الفنون جميعها مجالاً للتجارة، والربح والكسب السريع، فتحول تجار الخردة والجزارون ومهربو البضائع من الخارج وأباطرة الصنف إلى صناع الفكر والوعى والثقافة من خلال السينما والمسرح وشركات إنتاج المسلسلات، وبالتبعية التليفزيون الذى تحول إلى صالة سينما مجانية، تعرض الغث والسمين مما تنتجه النخبة الانفتاحية الانتهازية الجديدة، وبظهور الفضائيات الخاصة التى تقتات على الإعلان، وتمثل مشروعاً ربحياً لأصحابها، ومصدراً للدخول الفلكية للمذيعين فيها، تعمقت الأزمة، وأصبح العقل المصرى نهباً لكل هاوٍ، أو تاجر، أو انتهازى، ولم يعد فى مصر، للأسف، جهاز لصنع الثقافة الوطنية وتشكيل الوعى، حيث تم التخلص من تراث الفنون المصرية، وبيعه لمن دفع أكثر من خارج الحدود، وتراجع التليفزيون المصرى كثيراً.
وهنا برزت ظاهرة جديدة وخطيرة، ولم تزل مستمرة حتى اليوم، وهى أن الفن أصبح محصوراً فى خدمة الفنانين، وأولادهم، وزوجاتهم، والإعلام كذلك، ولم يعد الفن أو الإعلام يخدم الإنسان المصرى، أو ينوره، أو يثقفه، أو يرتفع بمستواه العقلى، بل أصبح كلاهما -الفن والإعلام- محصوراً فى رؤية أهله، وفى خدمة نظرتهم للمجتمع، والعالم، والحياة، والكون، وأصبحت أجندة الفن، وأجندة الإعلام، محصورةً فى هموم قبيلة الفن وقبيلة الإعلام، ثم تداخلت القبيلتان بالنسب والمصاهرة، وأصبحتا قبيلة واحدة، ثم دخلت معهما قبيلة الصحافة، وخرجوا جميعاً من مصر، وصنعوا لهم «مصراً» أخرى؛ تتناسب مع رؤيتهم وهمومهم، وطموحاتهم، وتركوا الهموم الحقيقية للناس، وإن تناولوها فإنهم يعالجونها من زاويتهم كمثقفين تنويريين، يتعالون على هذا المجتمع المتخلف، وإن ظهر لهم تعاطف شكلى معه، يبالغون فى نقائصه، وأزماته، ويقفون عند نقاط ضعفه، بل يتجمدون هناك، وكأن هذا المجتمع ليس فيه إلا نقاط ضعف، وأزمات فقط، وإذا اعترضت عليهم يقولون لك هذا هو دور الفن، أن يظهر العيوب والمشاكل، لا أن يعِظ ويعلم.