أتذكّر بعد أن قام الدكتور محمد مرسى فى 12 أغسطس 2012 بتعيين اللواء عبدالفتاح السيسى وزيراً للدفاع واللواء محمد العصار مساعداً له، كانت هناك حملة إعلامية مجنونة ضد الرجلين. وكتبت آنذاك: «لا مكى (أقصد المستشار محمود مكى) ولا السيسى ولا العصار ولا صدقى (وزير الدفاع الحالى) إخوان، هم فقط متدينون تدين الطبقة الوسطى التقليدى الذى يسهل الخلط بينه وبين سمات اﻹخوان التقليدية».
وكان ذلك تعليقاً على قرارات الرئيس مرسى آنذاك بإقالة المشير طنطاوى والفريق سامى عنان، وتعيين المستشار محمود مكى نائباً لرئيس الجمهورية، وتعيين الفريق أول عبدالفتاح سعيد خليل حسين السيسى قائداً عاماً للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع والإنتاج الحربى، وتعيين السيد اللواء محمد سعيد العصار مساعداً لوزير الدفاع.
ألطف ما قرأته آنذاك من انتقادات لكلامى هو: «شهادة من واحد إخوانجى على شوية إخوانجية». وكان ذلك من أحد الثورجية المشهورين آنذاك، والذى اختفى الآن تماماً ولا أعرف أين ذهب.
وأتذكّر أن صحيفة «الأهرام» اتصلت بى آنذاك بحثاً عن تعليق أو توضيح بالذات بعد الهجوم على «شخصى» المتواضع وكأننى شريك فى «جريمة» تعيين السيسى وزيراً للدفاع، قلت لها: أنا لا أدافع عن نفسى، أنا أقول كلمتى وشهادتى، من شاء قبلها، ومن شاء رفضها. وكفى.
من يعرف هؤلاء جميعاً عن قرب يدرك أن لديهم رؤية وطنية ثابتة كالخط المستقيم أو مثل القطار الذى يتحرك وله هدف، إن ركب الإخوان أو غيرهم معهم القطار فمرحباً بهم فى قطار الوطنية المصرية، وهو ترحيب مشروط باحترام مقتضيات الوطنية المصرية، وإن حاول الإخوان أو غيرهم اختطاف قطار الوطنية المصرية لتحقيق مصالح فئوية أو حزبية أو شخصية، فلا مرحباً بهم.
يوم أن فعل أو قال الدكتور مرسى ما يخدم القضية الوطنية المصرية وقف هؤلاء معه، ويوم أن انحرف عن جادة الوطنية المصرية كان لا بد من الضرب على يديه ومنعه بل والحجر السياسى عليه مثلما حدث. ويوم أن طالب كثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور، بأن ينجى الرئيس مرسى مصر من فتنة كبيرة قبل 30 يونيو 2013، كانت القضية هى الحفاظ على البلاد من خطر حقيقى مصدره رئيس الجمهورية شخصياً. وكما قال نابليون: «السياسى الذى لا يعرف مواطن الخطر، يصبح هو مصدراً للخطر».
هذا ما كان وهذا ما ينبغى أن يكون.
وقد كنت شاهداً، وكتبت ذلك أكثر من مرة، وقلته فى التليفزيون، أن المجهود الذى بُذل من هذه الأسماء المشار إليها وغيرهم، ويضاف إليهم الفريق محمود حجازى، رئيس الأركان الحالى، لإقناع مرسى ومن معه بأن مصر أكبر من الجماعة وأن النظام أهم من التنظيم، هذا المجهود ما كان بالقليل. ولكن الدكتور مرسى ورفاقه جاعوا جداً، فأكلوا جداً، فشرقوا جداً، فماتوا جداً.
هذه كانت المقدمة.
أما الموضوع، فهو حالة الهيستريا التى يعيشها المجتمع لدرجة أن يقول لى لواء شرطة مهم إنه لو وقعت خلافات حادة بين زوج وزوجته تشيع عنه أنه «إخوان» وتقدم بلاغاً عنه فى قسم الشرطة.
وشىء من هذا يحدث فى أجهزة إعلامنا وعلى صفحات جرائدنا، فنتحول إلى مجتمع يناضل فى توزيع الاتهامات بلا دليل.
قرأت فى صحيفة «الوطن» كلاماً أذهلنى لأحد الكتاب المهمين الذين أتابع كتاباتهم باهتمام لما له من باع طويل فى دراسة ونقد، بل ونقض، جماعة «الخوّان المسلمين». وكلام الكاتب يأتى فى إطار وصف رجل عرفته مؤخراً، بل وتابعت أنشطته أجهزة الدولة السيادية، عن أنه رجل يعمل فى صناعة الحديد وأنه تشارك مع تاجر عربى مسيحى ليخفى هويته الإخوانية (مع أن هذه الشراكة كانت قبل الثورة بسنوات طويلة فيما فهمت) وأنه اتُهم فى قضية اقتحام مركز «يوسف» بالفيوم بعد فض رابعة، مع ملاحظة أنه تمت تبرئته من هذه التهمة. وهذه مسألة لا يوجد فيها مجاملات.
هذا النوع من الهجوم الشخصى الذى يرتدى عباءة الدفاع عن المصلحة الوطنية لا يخدم أى قضية وطنية فى شىء. هناك أجهزة تحقيق فى هذه الدولة هى التى تقول من يعمل لمصلحتها ومن يعمل ضد مصلحتها. ولو ثبت أنه أو غيره يعمل ضد الصالح الوطنى، فالمكان الطبيعى هو التحقيق أمام النائب العام.
الرجل المشار إليه تحققت ثلاثة أجهزة سيادية من عدم انتمائه للإخوان بسبب اتهامات مشابهة، بل إن أجهزة الدولة تطلب دعمه فى الكثير من الأنشطة الخيرية والتنموية، والتقى بالرئيس السيسى وبقيادات عليا فى الدولة أكثر من مرة، وقبل ثورة يناير بعشر سنوات على الأقل قام بإنشاء العديد من المدارس والمستشفيات والمشروعات الخيرية. وهو لا يحتاج أن يخفى إخوانيته، لأنه ليس إخوانياً أصلاً.
أتذكّر أن رئيس تحرير مطبوعة متخصصة فى مؤسسة عريقة، تم تعيينه فى عهد الإخوان، وأثبت جديته ومهارته، فما كان من رئيس مجلس الإدارة الجديد بعد عصر الإخوان إلا أن قام بعزله بتهمة أنه «إخوان»، والحقيقة أن كل ما أصدرته المطبوعة خلال حكم الإخوان كان ناقداً لهم وبشدة.
هذه أمثلة عديدة أرى فيها ثلاث ظواهر متلازمة:
أولاً، إصدار أحكام قاطعة فى قضايا فيها الكثير من القيل والقال وغياب واضح للأدلة القاطعة، ومع ذلك تأتى الأحكام قاطعة وكأن صاحب الرأى أو القرار يلعب دور المحقق ووكيل النيابة والقاضى. وما له أن يكون.
ثانياً، هناك خلط غير مفهوم بين القضية الوطنية والقضية الشخصية، وبتعبير الرئيس السيسى شخصياً: «هناك من يخدّم على مصالحه على حساب البلد»، ويسعى لاستخدام ورقة «فلان إخوان» لتحقيق مصالح شخصية. هى «حرب إزاحة» يسعى فيها كل طرف لأن يزيح منافسه من ساحة المنافسة بوصفه بالخيانة والإخوانية والطابور الخامس. ولو صح هذا، فالطريق إلى النائب عام مفتوح.
ثالثاً، البلد يُستنزف ويفقد جزءاً كبيراً من قدرته على مواجهة تحدياته بسبب «الحروب الأهلية الإعلامية والثقافية والفكرية» التى نشنها على بعضنا البعض رغم أن المعركة تقتضى أن نقف فيها جميعاً على قلب رجل واحد لإنقاذه من أخطاء وخطايا كثيرة ارتكبناها فى حقه على مدى عقود طويلة.
لا أظن أننا بحاجة للإجابة عن السؤال المطروح فى أول المقال، فقد أجبت عنه منذ أغسطس 2012، ولكن اليوم السؤال يحتاج لإعادة صياغة: هل ينجح «الخوّان المسلمون»، كما وصفهم الأستاذ العقاد، كل يوم فى خطتهم عن طريق تمزيقنا وتشكيكنا فى بعضنا البعض وإلقائنا الاتهامات فى وجه بعضنا البعض؟
أى قضية نخدم حين نحول كل من لا يعجبنا أو يتعارض مع مصالحنا إلى خائن وعميل وكافر وطابور خامس؟
أعتقد أنها قضية شخصية أكثر منها قضية وطنية، وإلا فالطريق إلى النائب العام مفتوح: اذهب إلى هناك ومعك أدلتك والله معك.
لو كنا صدقنا أن السيسى والعصار وصبحى وحجازى إخوان لأنهم تم ترقيتهم فى عهد مرسى، كما اعتقد بعض السذج، لكنا خدمنا الإخوان أكبر خدمة. والحمد لله أنه لم يزل بيننا من لم يصبه فيروس «الإخوانيفيكاشن».
قال تعالى: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ». صدق الله العظيم.
تحيا مصر، تحيا الجمهورية.