معتز بالله عبد الفتاح
كنت أجلس مع مجموعة من الأصدقاء ومعهم أصدقاء لهم لا أعرفهم. وبعد حوار وأخذ ورد قلت عبارة: «الله يخرب بيت السياسة، صراع على حطام أفقد الناس إنسانيتهم».
وهنا تحول الحوار إلى نقاش حول ماهية السياسة.
وكانت الإجابة أن السياسة، وفقاً لما ينبغى أن يكون، هى حل مشاكل الناس، أو كما يقول التراث العربى الإسلامى هى «القيام على الأمر بما يُصلحه». ولكن السياسة وفقاً لما هو قائم وكائن فى واقع الناس المعيش هى صراع (فى المجتمعات المتخلفة) وتنافس (فى المجتمعات المتقدمة) على تحديد من يحصل على ماذا متى وكيف ولماذا. بعبارة أخرى صراع أو تنافس على من يكون فى الرئاسة ومن يكون على قمة حزب من الأحزاب ومن يحصل على أى قطعة أرض وهكذا.
السياسة بالمعنى الأولى تستهوينى وأجد فيها واجباً إنسانياً وأخلاقياً. أما السياسة بالمعنى الثانى فهى شر أتجنبه بكل ما أوتيت من قوة، إلا أن يكون البديل هو خيانة الوطن والتخاذل عن تحمل المسئولية بشرط توافر أسباب «القيام على الأمر بما يُصلحه».
عادة ما كنت أقول إن علاقتى بالسياسة مثل علاقة راكب الطائرة بالطائرة. أنا فيها اضطراراً وليس اختياراً. أنا أكره السفر ولكن لا بد منه. أجلس فى مقعدى فى الطائرة وأتمنى ألا أعرف حتى من هو قائد الطائرة وليس لى أى طموح أن أعمل فى مجال الطيران من الأصل. وكل أملى أن تهبط الطائرة بى وبغيرى بسلام وألقى ربى وليس فى رقبتى دم أو ظلم أو ذنب. ولو كنت مضطراً للاختيار بين ذنب دون ذنب، فسأختار الذنب الأدنى تجنباً للذنب الأكبر، وأختار الظلم الأدنى دون الظلم الأكبر، وهكذا.
ولكن ماذا لو حدثت مشكلة فى الطائرة وأصبح واجباً علىّ أن أساعد؟ ماذا لو كان مطلوباً منى أن أقوم من مقعدى لأجلس فى مقعد آخر؟ ماذا لو كان مطلوباً منى أن أساعد قائد الطائرة فى أمر ما يراه ضرورياً لوصول الطائرة إلى بر الأمان وأظن فى نفسى أننى قادر عليه؟
هنا تتحول المسألة من «هل أريد» إلى «هل أستطيع» إلى «توكلت عليك يا رب».
قال إبراهيم بن أدهم الصوفى المشهور: «وآخر ما يخرج من قلب العارف بالله حب الرئاسة». والغريب أن نفس المعنى قال به أفلاطون معللاً كلامه بأن شهوة الحكم من أكبر الشهوات لأنها الشهوة التى لو تحققت يظن المرء أنه يستطيع من خلالها الوفاء بكل ما دونها من شهوات. حب الرئاسة مثل حب المال وحب الشهرة وحب الطعام وغيرها من الشهوات، إما أن تملكها أو أن تملكك. ومن يسر الله له أن يسيطر على شهواته فقد جعل له حظاً عظيماً. ونسأل الله أن نكون من هؤلاء.
قال أحدهم: «ولكن هذا كلام ناس صوفية وأنا فاكرك إخوان».
كان ردى: أنا لا صوفى ولا إخوان، ولا أنتمى لأى تيار فكرى أو سياسى ليس عن جهل وإنما بعد اطلاع عليهم جميعاً واكتشافى أنها محاولات لطرح حلول بشرية لمشاكل لا أواجهها على المستوى الشخصى. لا أنكر على غيرى اختياره ولكن لكل واحد منا رؤيته للحياة فى حدود معلوماته وخبراته وطموحاته.
أعظم ما فى الحياة أن تعبرها كعابر سبيل. قال أحدهم: ألا تحب أن تذكرك كتب التاريخ؟ قلت: بلى. أحب أن تذكر عنى أنى الشخص الذى رفض أن تذكره كتب التاريخ لدرجة أنها أغفلت اسمه. بصراحة أنا شايف إن كل واحد فينا محتاج أن يذهب إلى قبر أى من أصدقائه أو إخوانه القريبين منه فى السن ويسأل نفسه: لماذا هذا مات وأنا حى؟ هل نفعه ماله وعياله ونفوذه وسطانه إلا بقدر ما اتقى الله فيهم؟ متى سألحق به؟
أخشى أننا نطغى ونؤثر الحياة الدنيا.
ربنا يستر.