د.أسامة الغزالي حرب
في صباح أحد أيام الخريف، كانت أصغر بنات الأسرة (ف) تستعد للذهاب ليومها الأول بالمدرسة الابتدائية، وكانت الأم قد صحت مبكرة لتعد الشاي باللبن والساندوتشات للجميع: للابنتين الأخريين (ص) و (أ) الطالبتين في ثالثة ورابعة ابتدائي،
والتوءمان (خ) و (ي) بالسنة الأولي الإعدادية، و (ط) في ثانية إعدادي و(ص) في ثالثة إعدادي، أما أكبرهم (أ) فكان أيضا في طريقه للذهاب ليومه الأول في المدرسة الثانوية. غير أن ذلك كله لم يشغل الأم أبدا عن العناية بالأب، زوجها، الذي كانت قد أعدت له أيضا ساندوتشا مميزا ليأخذه معه لعمله كمدرس للغة العربية في المدرسة القريبة من المنزل.
ليس هذا مقطعا من فيلم سينمائي ولكنها وقائع أحد أيام منتصف شهر أكتوبر عام 1963 من حياة أسرة من قلب الطبقة المتوسطة بحي شبرا، في اليوم الأول للعام الدراسي. كان تقسيم العمل واضحا وصارما بين الوالدين:الأب مهمته أن يعد الأبناء ليكونوا «متفوقين» وليسوا فقط ناجحين، كما كان يردد دائما.أما الأم فكان عليها تدبير أمور الأسرة في حدود الدخل الذي يسلمه زوجها لها بالكامل بعد ان تعطيه مصروفه الشهري. كانت تعد كل شيء وتشرف علي كل شيء، لا يساعدها سوي الشغالة الصغيرة. كان أكلها الشهي محل إعجاب واعتراف الجميع،فضلا عن صنع كل أنواع المربات والمخللات في مواسمها.في العيد الصغير تعد الكعك وملحقاته لأربعة أشهر علي الأقل، وتحرص علي عيدية منه للجيران الأقباط، وفي العيد الكبيرتعدل بين توزيع اللحم علي قائمة تعدها بعناية وبين الأكلات الشهية لأسرتها.
كل ذلك في منزل مرتب و نظيف دوما. وفي آخر النهار، وبعد عناء يوم طويل ، تجلس في البلكونة المطلة علي شارع روض الفرج بضوضاء الترام فيه، طلبا لبعض الراحة التي لم تنل منها إلا أقل القليل.وعندما كان يأتيها أحد أولادها يبشرها بنجاحه أو بالأحري تفوقه ،كانت تبتسم قائلة بصوت خفيض: مبروك، كأنها تخشي من الحسد. اليوم، في أول عيد للأم بعد وفاتها،أقول رحم الله أمي، التي أعلم يقينا أنها كانت نموذجا لملايين الأمهات العظيمات في مصر كلها. إنهن عماد الأمة المصرية، ومناط عزها و فخارها .
نقلاً عن "الأهرام"