د.أسامة الغزالي حرب
فى إحدى المدن خارج القاهرة كان هذا المشهد: أحد الضباط يصل بسيارته إلى الفيللا التى يسكنها، ويترجل منها حاملا مدفعا رشاشا، فى تلك اللحظة كانت الطفلة «جمانة»، ذات السنوات الأربعة،
عائدة مع أمها لمسكنهم فى الفيللا المجاورة، وما أن رأت الضابط حتى صاحت :«سيسي، سيسى ياماما»! وابتسم الضابط ، ممشوق القوام، ذو البدلة الكاكى للطفلة التى تتقدم إليه.
وكانت سعادتها بالغة وهو يرفعها بين يديه لتلتقط لهما أمها صورة بالموبايل الذى معها! ثم كانت فرحتها أكبرعندما سمح لها لأن تحمل سلاحه (بعد أن طمأن أمها أنه فارغ من الطلقات) لترفعه الطفلة بصعوبة بيديها الصغيرتين، وتصر على تصورها أمها به مرة ثانية. لقد رأيت هذا المشهد بمدينة رأس البر فى يوم شم النسيم الثلاثاء الماضي، وكانت له بالنسبة لى دلالات لايمكن تجاهلها! فأطفال اليوم تنضج مداركهم وقدرتهم على الإستيعاب أكبر و أسرع بكثير مما كان يحدث فى السابق، وقد ارتبطت فى ذهن جمانه شخصية «الضابط» باسم «السيسي» الذى شهدته مع أهلها فى التليفزيون! فى هذا السياق تذكرت مانشر مؤخرا حول حظر الحديث فى السياسة بالمدارس، وهذا فى رأيى كلام غير واقعى وخاطيء! الذى ينبغى حظره والإصرار عليه هو منع أو حظر«التحزب» فى المدارس.
لكن الأهم من ذلك أن تشمل المناهج الدراسية وكذلك الأنشطة المدرسية موادا وممارسات عن التربية الديمقراطية، وتنمية ملكات الحوار وتقبل الرأى الآخر ومقارعة الحجة بالحجة، فضلا عن إشراك التلاميذ عمليا فى إدارة المدرسة والممارسة العملية للديمقراطية من خلال مجالس الفصول وغيرها ...إلخ ولكن للأسف الشديد فإن تحقيق هذا كله بات مستحيلا بحكم الكارثة الأكبر التى وقعت فى هذا البلد فى ظل مبارك وهى اختفاء «المدرسة» التى يتلقى فيها الطالب «التربية» مع التعليم (أقصد بالطبع المدارس الحكومية التى يرتادها الغالبية العظمى من أبناء الشعب).وباختصار، فإن أولئك «الطلاب» الذين يحرقون جامعاتهم اليوم هم أبناء «الدروس الخصوصية» الذين افتقدوا المدرسة،فافتقدوا التعليم السليم، أما «التربية» فتكفلت بها جهات أخري، فكانت النتيجة التى نراها!
"الأهرام"