يعطي استدعاء الرئيس الأميركي حكام شبه الجزيرة العربية بقيادة السعودية إلى لقائه في منتجع كامب ديفيد الانطباع بأن العرب أمام «منعطف تاريخي» يشقّهم ـ كما المرة الأولى في العام 1978 ـ إلى «عربين» بل إلى محورين، وربما إلى ثلاثة محاور متواجهة، بالاضطرار إن لم يكن بالرغبة أو الاحتياج.
لقد شق قرار السعودية بإعلان الحرب على اليمن الصف العربي وقسمه معسكرات، برغم محاولات التمويه المتعددة والتي تقوم على الادِّعاء بأنها «عملية دفاعية» حيث لا هجوم، وبأنها تستهدف بعض اليمنيين لا كلهم، بعنوان جماعة متّهمة في وطنيتها (الحوثيون) وبذريعة أنّهم موالون لإيران، فضلاً عن الرئيس السابق الذي خلعته الإرادة الشعبية وكان «الحوثيون» ـ أو «أنصار الله» ـ بين طلائعها...
صحيح أن العديد من الدول العربية غائبة أو هي تغيِّب نفسها عن دائرة القرار في مختلف الشؤون «القومية»، ولا تهتمّ كثيراً لما يجري خارجها، فإن هي اهتمّت، فإن بياناً غامض العبارات يكفي لتأكيد «أخذ العلم» بما يجري في «الدول الشقيقة»، مع شيء من النصح باعتماد الحكمة في المعالجة، وعدم إسقاط موجبات الأخوة من حساب السياسة التي هي أداة تحقيق المصالح.
وإذا كان «كامب ديفيد الأول» قد بات عنواناً لخروج مصر من الصفّ العربي ومن مواجهة العدو الإسرائيلي (أقله كرد فعل عصبي ينفع للاستهلاك ولا يؤثر في السياسة، وإن أدّى إلى إخراج جامعة الدول العربية من القاهرة لتحطّ في تونس كلاجئ سياسي ولو لفترة محدودة)، فإن كامب ديفيد الثاني يأتي تثبيتاً لخروج المملكة العربية السعودية ومعها إمارات الخليج العربي من ذلك «الصف» الذي فقد معناه السياسي ودلالاته القومية.
للوهلة الأولى، يتبدّى هذا اللقاء الذي يجيء تتويجاً للحرب السعودية على اليمن، وكأنه إعلان خروج المملكة، ومعها الإمارات الخليجية، من حومة العمل العربي العام، وتكريساً لـ «مجلس التعاون الخليجي» كبديل من جامعة الدول العربية التي باتت بلا وظيفة، عملياً، وبلا قدرة على التأثير في قرار أيّ من دولها.
وهكذا يتوالى خروج عرب القرن العشرين من التاريخ بقرارات متلاحقة لا تترك فرصة للإحاطة بالنتائج ومدى خطورتها على حاضرهم ومستقبلهم.
لكأنهم يعودون إلى الجاهلية على متن الطائرات الحربية الأميركية ـ البريطانية ـ الفرنسية، وكلها أسرع من الصوت، وأعظم تدميراً لأسباب العمران من الزلازل والبراكين التي استولدت ـ في ديارهم وعبر تاريخ طويل ـ النفط والغاز ومختلف المشتقات.
سنة بعد سنة يتزايد أعداد دولهم التي يدمّرونها بأيديهم (ولحساب الغير بعنوان إسرائيل) وعبر مسلسل من الصراعات على السلطة تعيدهم إلى أحضان «الاستعمار» (بالطلب).. وهو الآن يتخذ أشكالاً جديدة ليس الاحتلال العسكري أولها أو أخطرها. وثمة دول عربية عديدة يحكم القرار فيها، اقتصادياً وعسكرياً، وبالتالي سياسياً، مجموعة من «الخبراء» وقلة من الضباط الأجانب الذين يعيدون تدريب الجيش الذي كان هدفه «النظري» التحرير، بعنوان فلسطين، وتأكيد الهوية العربية والقدرة على احتلال المكانة اللائقة بتاريخهم وبقدرات شعوبهم. أما اليوم، فإن هدف الجيوش حماية الأنظمة القائمة مع تبديل في هوية «العدو» الذي صار ـ في الغالب الأعم ـ عربياً، بشهادة الحرب السعودية على اليمن بعنوان «الحوثيين»، والمقصد إيران، والتوقيت دقيق: عشية توقيع الاتفاق النووي، المقرّر ـ مبدئياً ـ بعد بضعة أسابيع.
لقد أخرجت من الميدان، حتى هذه اللحظة، ثلاث دول عربية. وعلى اختلاف الأسباب فإن النتيجة واحدة، وهي أن دول سوريا والعراق وليبيا هي الآن غارقة في دماء أبنائها، وقد اجتمعت عليها أخطاء أنظمتها وجماعات الإرهاب السياسي باسم الإسلام بعناوين مختلفة، وإن ظل أبرزها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش». وها هي «عاصفة الحزم» تنهي الأمل بنهوض اليمن واستكمال أسباب حياة دولته الفقيرة...
هل من الضروري الإشارة إلى أن بعض الدول العربية قد أسهمت في تحويل المعارضات السلمية إلى عصابات مسلحة بأحدث أنواع السلاح وأعظمها تدميراً، كما هي الحال في سوريا، بغير أن ننسى الدور المؤثر الذي لعبته تركيا أردوغان كرمز لحكم «الإخوان المسلمين»، مع التذكير بالدور التركي الذي لم «يتطهّر» من أطماعه التاريخية شبه المعلنة في شمال سوريا وبعض العراق بعنوان محافظة الموصل.
على أن ذلك لم يمنع دول الخليج من التحالف مع تركيا ضد سوريا بذريعة العداء مع نظامها الحاكم.. وليس سراً أن العديد من الفصائل المقاتلة في سوريا تحت الشعار الإسلامي إنما تجد في خصومة السعوديين للنظام السوري مصدراً للدعم بالمال والسلاح ومعسكرات التدريب، وإن حوّلت بعضها إلى الأردن لتداخل حدوده مع حدود سوريا (وقد كان، ذات يوم بعض أرضها).
وفي ظل الخصومة التي تحوّلت إلى عداء يمكن لإسرائيل أن تلعب دور «الحليف»، فتفتح حدودها لبعض القوى المسلّحة التي تحظى بالرعاية السعودية، ولا تتردّد عن القيام بغارات جوية، بين الحين والآخر، لفك الحصار عن مجموعات مسلّحة تقاتل النظام كانت مهدّدة بخسارة مواقعها.
أما في العراق، فقد كان للسلاح المذهبي دوره في توسيع الشرخ بين العراقيين، في حين تكاتفت الجهود جميعاً في دعم مطلب أكراد العراق بالانفصال عن الدولة المركزية، ولو تحت تسمية «الكانتون»، مع السعي الحثيث لتثبيت الأمر الواقع بحيث يتحوّل الإقليم الكردي إلى دولة ذات سيادة، إلا إذا منع الفيتو التركي والاعتراض الإيراني إعلانها رسمياً، من دون أن يمنع ذلك تثبيت هذا الكيان وتدعيم انفصاله، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً بطبيعة الحال، عن الحكومة المركزية في بغداد.
في الجانب الآخر، لا يحتاج انتقال السلطة في السعودية إلى «السديريين»، إلى توصيف يؤكد أنه يشكل مشروع انقلاب يتجاوز التراتبية في الأسرة إلى التوجّه السياسي. ولقد تمّ هذا الانقلاب بسرعة قياسية، إذ قبل أن يتم دفن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، كان خليفته الأخ غير الشقيق الذي نُودي به ملكاً، سلمان بن عبد العزيز، يستكمل أسباب السيطرة على مختلف مواقع السلطة... حتى أنه لم يبق الأمير متعب بن عبد العزيز في ولاية العهد، بالشراكة مع الأمير محمد بن نايف، إلا لأسابيع قليلة، ثم طلبه وأبلغه أن «أهل العقد والحل» في انتظاره، لكي «يقبلوا استقالته» تمهيداً لتسمية الأمير محمد بن سلمان ولياً لولي العهد. وهكذا كان.
ثم إن الملك سلمان، ومعه ولي العهد محمد بن نايف وولي ولي العهد محمد بن سلمان، لم يتأخر عن إعلان خطوته الحاسمة: مواجهة إيران، عشية تفاهمها مع واشنطن (ومعها دول 5+1) على الملف النووي، لطرد آخر مواقع نفوذها المفترض في اليمن، ولو اقتضى الأمر شن الحرب على اليمنيين بعنوان «الحوثيين» بعد تصنيفهم «عملاء لإيران» يأتمرون بأمر «الولي الفقيه» باعتبارهم «شيعة»، مع أنهم «زيود»، والزيود ـ تاريخياً ـ في موقع وسط بين السنة والشيعة، بل لعلهم أقرب إلى السنة، في حساب الفقهاء.
إذاً، لا بدّ من «تطهير» شبه الجزيرة العربية من «النفوذ الإيراني» ولو اقتضى الأمر إعلان الحرب على اليمن، مع التركيز على الهوية المذهبية للحوثيين استكمالاً لمهمة استنفار السنة العرب ضد الهيمنة الإيرانية بعنوان «ولاية الفقيه».
ولقد كانت القمة العربية في شرم الشيخ المنبر الممتاز لإعلان هذه الحرب، فسوريا غائبة، والعراق معطّل القرار، ومصر لما تستعد دورها القيادي عربياً بعد، وليبيا غارقة في دماء أهلها، والجزائر تحاول الابتعاد عن الحرائق العربية، والأنظمة الملكية ـ المغرب والأردن ـ لن ترفض إعلان تأييد السعودية وسائر أقطار الخليج التي تملك أسباب التأثير المذهَّب.
وهكذا تأتي دعوة الرئيس الأميركي باراك أوباما قادة منطقة الجزيرة والخليج، بزعامة الملك سلمان، تتويجاً لواقع انفصال أغنياء العرب عن فقرائهم، وخروج دول الخليج رسمياً من دائرة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بذريعة أن مصر ثم الأردن ثم «منظمة التحرير الفلسطينية» قد سبقت الجميع إلى الخروج من تلك الدائرة، بمعاهدات سلام..
وباختصار، فإننا أمام مرحلة جديدة في تاريخ الوطن العربي تنذر مقدّماتها بمخاطر مصيرية على هذا الوطن المقسم، المفكّك، الغارقة بعض دوله بدماء أبنائها.
لقد خرج العرب مهزومين من الصراع مع العدو الإسرائيلي، وها هم ينقسمون مرة أخرى الآن تحت عنوان «الخطر الإيراني» الذي يصوّره البعض أفدح ضرراً من احتلال إسرائيل فلسطين العربية.
وعسى تكون «كامب» ديفيد الجديدة أقل أذىً على مستقبل هذه الأمة من كامب ديفيد الأولى.