تتهاوى دول المشرق العربي وبعض المغرب غارقة في دماء أهلها وخراب عمرانها، ويهرب منها حاضرها ليتركها واقفة على رصيف القرار الدولي في انتظار مستقبل لن يكون لها رأي فيه، يُرسم لها من خارج تاريخها وما كان شعبها يأمل فيه لغده ويعده حكامه به.
تختفي فلسطين من دائرة الاهتمام العربي العام، وتكاد تسقط من الذاكرة ويتم التسليم بإسرائيل كمصدر أساسي للقرار حول مصير «القضية المركزية للنضال العربي»، ويغيب الاهتمام بوحدة الشعب الفلسطيني و «منظمة التحرير» وكل ما كان عنوان نضال الأمة من أجل مستقبلها الأفضل. لم تعد لفلسطين القداسة التي أسبغتها عليها دماء الشهداء على امتداد عشرات السنين، فضلاً عن أرضها المباركة برسالات الأنبياء.
فقط في الأيام الأخيرة عادت فلسطين ولو للحظة إلى صدارة الأخبار عبر وحشية المستوطنين المستقدَمين إليها من أربع رياح الأرض، حين أقدم بعض هؤلاء على إحراق منزل بأهله في قرية دوما، جنوب نابلس، وهكذا قضى الطفل علي الدوابشة نحبه اختناقاً، وهو الذي لما يتم عامه الأول، بينما أمكن إنقاذ شقيقه احمد وعمره أربع سنوات، وهو في حالة حرجة.
أما الصراع بين «السلطة» في الضفة الغربية و«حماس» في غزة فلا يزال مفتوحاً، برغم الحروب التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على ذلك «القطاع» الذي اخذته الخصومة بين «المنظمة» وبين «حماس» إلى نوع من الانفصال في ظل الخراب الذي لم يتقدم أحد لإزالته بمشروع لإعادة الإعمار، مرة أخرى، كما حدث من قبل، ولأسباب لا تزال غير مفهومة حتى الساعة، في المرتين.
غياب فلسطين مؤشر إضافي على سقوط رايات الاستقلال والتقدم والوحدة، وعلى اندثار الحلم بالأمة الواحدة، فإذا للمنطقة، دولياً، اسم ينفي هويتها العربية ويجعلها غريبة على أهلها، فـ «الشرق الأوسط» يخدم المصالح الأجنبية، وأعظمها إسرائيل، ويمهد لتشتيت «الأمة العربية» شعوباً شتى، ثم تفعل الحروب الأهلية فعلها فتستنبت قوميات مندثرة بعضها ديني المنشأ وبعضها الآخر عنصري، فيها أقليات مستكبرة وأقليات مقهورة ومتصاغرة، لا الأقليات تتواضع ساعية إلى مصالحة تحفظها وتحفظ الدولة، ولا الأكثريات تسعى جادة إلى طمأنة إخوانها في الوطن بأنها لن تحاسب كل فرد منهم وكأنه الطاغية الذي كان.
سقطت رايات الاستقلال بعدما استدعى النظامُ الذي صار هو «الدولة» القوى الأجنبية، التي بات بعضاً من «مصالحها» في المنطقة، لحمايته... لكن المعارضات متعددة الولاءات والشعارات وجدت هي الأخرى الرعاية والحماية في القوى الدولية ذاتها التي صارت هي المرجعية والحَكَم.
تشطّر الوطن العربي، وصار «الاستعمار» بالطلب وبشروطه.
تتدلل واشنطن وتفرض شروطها قبل الموافقة على مشاركة طائراتها المن دون طيار، أو تلك التي بطيارين، في قصف المتمردين سواء أكانوا من «داعش» أو من الخارجين على «النظام» والطامحين إلى تغييره، إذا أمكن.
يعيش الوطن العربي، عموماً، بمشرقه وبعض مغربه في ظل فوضى عارمة: تمزقت الدولة الواحدة دولاً أو مشاريع دول مستحدثة بالارتكاز إلى أساطير قديمة أو إلى قوة الأمر الواقع..
تطل على الأفق العربي مشاريع «دول» جديدة، بعضها على أساس طائفي، وبعض آخر على أساس مذهبي، وبعض ثالث على أساس عرقي.
في العراق، مثلاً، بقايا دولة متهالكة تتنافس مكوناتها على تدميرها، ومشروع دولة مستحدثة في الشمال تعيش طالما استمر ضعف بغداد والتناغم في المصالح القائم بين تركيا وإيران، ولا بأس إن كانت «إسرائيل» ـ العدو القومي سابقاً؟! ـ بين كبار المستفيدين من الدولة الكردية العتيدة. فعرب العراق مشغولون بتقاسم «المال السائب» وحرب الفيدراليات الطائفية بل المذهبية، والكرد قد يكونون مصدر دعم للأضعف عند ترسيم الحدود وتوزيع ثروة البلاد النفطية.
وفي سوريا «مشاريع» دول شتى تحاول استغلال ضعف الدولة المركزية المنهمكة في حروب كثيرة ومع قوى تتصارع في ما بينها ولكنها تجتمع لقتالها... وبعض مشاريع الدول ترسم خرائطها في «الميدان»، وعلى قاعدة طائفية أساساً، ومن ثم عشائرية او قبلية تتجاوز الحدود التي فرضها الاستعمار القديم بمعاهدة سايكس ـ بيكو.
أما في لبنان، حيث «النظام» هو الأصل في وجود «الكيان» فالدولة ضعيفة غالباً، قابلة للتعطيل دائماً، يضرب الشلل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية ولكنها تستمر بقوة انتفاء مصلحة الخارج والداخل في سقوطها.
أما دول الخليج فمصالح دولية مجزية أكثر منها أوطاناً، بالمعنى التاريخي، وبأصول أهاليها الذين يتوزعون على قبائل وافدة من المنابت ذاتها، والتي جعلها النفط أو الغاز دولاً بقوة واقعها كمصالح عليا للمستفيدين منها بوصفها مصادر للطاقة تكاد لا تنضب.
باختصار، فإن بعض الدول العربية تكاد تغرق في دماء أهلها، وبالذات منها تلك التي كان لها حضورها المؤكد دولياً اما بأدوارها السياسية القيادية (كما سوريا والعراق، خصوصاً في غياب مصر ـ مبارك)، واما بنفوذ استثنائي كما ليبيا القذافي التي مكّنها النفط والفراغ من حولها من الاندفاع إلى مغامرات غير محسوبة، سواء في الوطن العربي أو في افريقيا أو حتى في أوروبا التي كانت تنافق القذافي زعيماً لتحصل منه على النفط بشروط أفضل.
أما تونـــس التي بشرت بالثورة العربية في صيغة معاصرة، فقد اختطفها الإرهاب وكــــاد يعيدها طائعة مختارة إلى البورقيبية، يحيطها «الاخوان المســــلمون» بالابتهالات اعتذاراً عن تسرعهم في مصادرة الانتفاضة وكأنهم «بيت الرحم» لانتفاضة البوعزيزي.
تبقى دول عربية أخرى، بعيدة، تتابع أخبار الثورات وتستعد لمواجهة مَن يفكر في النزول إلى الشارع بإقفال الشارع وغواية الثوار المحتملين وتخييرهم بين السيف والذهب (كما في الجزائر)، في حين يكتفي أمير المؤمنين في المغرب بامتحان كرم الخليجيين عموماً والسعوديين خصوصاً لمساعدته على تأمين الشارع من «المتطرفين» و «المراهقين» الذين لا يقدّرون عواقب الأمور. وتدل مشاركته، ولو غير المؤثرة، في الحرب السعودية على اليمن، على أنه شريك ملكي ممتاز، مما يهوّن من خسارته طائرة حربية شاركت في إغارات حملة العزم على اليمن، لا سيما وقد عوّده العرش السعودي على إكباره وتقديره حافظاً له حسن استضافة الأسرة المالكة للراحة أو للنقاهة في قصور ابتنوها في العديد من أنحاء المملكة العلوية... ومن هنا الرحيل المفاجئ للملك سلمان من منتجع «كان» الفرنسي ذي الوهج الدولي، إلى بعض قصور الأسرة السعودية في رحاب مملكة أمير المؤمنين بين أغادير وطنجة ومراكش وبعض المصايف الملكية الخاصة.
نعود إلى أساس الموضوع:
لقد خسر العرب، بعد فلسطين ومعها مكانتهم في دنياهم كما في العالم أجمع، وها هم مهددون بخسارة ثلاث من دولهم ذات الدور أو ذات التاريخ أو كليهما، هي: سوريا والعراق واليمن.
في هذه البلاد العريقة الثلاثة يتم بشكل منهجي تدمير المدن، عواصم الحضارة الإنسانية، وتحطيم وحدة الشعب في كل منها، وإعادته إلى مكوناته الأولية: كلداناً، أكراداً، آراميين وسرياناً يتوزعون في أطراف الوطن العربي ضد أكثريته العربية (الإسلامية).
وفي هذه البلاد ذات الدور السياسي البارز في حقبة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات تتعرض الوحدة الوطنية لمخاطر الفتنة التي تكاد تذهب بها، بين السنة والشيعة أساساً في المشرق العربي، الزيود والشوافع في اليمن، فضلاً عن الاعتداءات المتكررة على الأقليات في أنحاء مختلفة تصل حتى إلى ليبيا.
على الجانب الآخر، فإن تركيا التي كانت تشارك بالحرب على سوريا من خلف ستار المنظمات المسلحة، قد تقدمت إلى خط المواجهة بعد الصدامات التي جرت بين تنظيمات كردية والجيش التركي.. فوافقت على أن يستخدم الطيران الحربي الأميركي بعض القواعد الجوية التركية في إغاراته على جحافل «داعش» في سوريا والعــــراق، ملوحة في الآن ذاته باحتمال أن تتقدم قواتها إلى داخل الحدود في الشــــمال الســوري، تحت غطاء جوي. ودائماً بذريعة مكافحة الإرهاب.
وبطبيعة الحال، فإن حكومة أردوغان لم تتوقف طويلاً أمام احتجاجات الحكومة العراقية (فضلاً عن السورية)، وإن كانت قد عملت على استرضاء «دولة البرازاني» بمصارحته أنها تهدف إلى ضرب تنظيم كردي تركي معارض ولا تستهدف الأكراد عموماً وأكراد أربيل بصورة خاصة.
أما إيران ما بعد الاتفاق النووي، فتُعدّ العدة «لهجوم السلام» الذي تنوي المباشرة به في الدنيا العربية الواسعة والمتعبة دولها بحيث لا تعرف قياداتها بماذا تستقبل الموفدين الإيرانيين، وهل تطمئن إلى شروحاتهم وتأكيداتهم أن ذلك لخير الجميع (بشهادة واشنطن) أم تزداد قلقاً على مصير أنظمتها المنهكة من قبل هذا كله، والتي لن يطمئنها إلى مصيرها أي تطور خارج حدودها.. ولو كان نووياً!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية