ها هو لبنان يعود إلى الصفحات الأولى في الصحف العربية، حيث تبقّت صحف، وإلى النشرات الإخبارية في الفضائيات العربية والأجنبية المفروزة لمخاطبة الرأي العام العربي، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي وبكثافة ملحوظة.
وها هي بيروت تعود لتحتل مكانتها كمدينة مشاغبة ترفع الصوت بالاعتراض أو بالاحتجاج والمناداة بالثورة على أوضاع مغلوطة يختلط فيها النهب المنظم مع هيمنة الزعامات الطائفية بنزعتها الحصرية لاحتكار «المكوّنات»، بحيث ينتفي «المواطن» تماماً ويتحوّل الشعب إلى «رعايا» لهذه القيادات التي لا تحول ولا تزول، لأنها محصّنة بالغرائز الطائفية والمذهبية التي تجعل المطالبة بالتغيير مدخلاً إلى الحرب الأهلية، خصوصاً مع سيادة هذه المناخات في المشرق جميعاً.
سواء بوعي أم بالتداعي وتراكم الخيبات والمرارات، يستبطن هذا الحراك الشعبي في لبنان مرارة الانكسار والخوف واغتيال الآمال التي علقها اللبنانيون على الشوق العظيم للتغيير الذي عبّرت عنه الجماهير التي تلاقت في ميادين العواصم العربية، سواء أكانت مجاورة للبنان أم بعيدة عنه بالجغرافيا وقريبة منه بالطموح والرغبة العارمة في التغيير وفتح الطريق إلى الغد الأفضل.
«النفايات» كانت هي الصاعق: استفاق اللبنانيون ذات صباح فإذا «النفايات» تتكدّس في شوارع العاصمة، بيروت، والضواحي الجنوبية والشمالية والشرقية، أي حيث يعيش ويعمل أكثر من نصف الشعب اللبناني وتتركز مقارّ مؤسسات الدولة؛ المجلس النيابي ومجلس الوزراء والوزارات المختلفة، ومباني المصارف والشركات والبيوتات التجارية الكبرى، إلخ.
والنفايات واحدة من الصفقات التجارية الكبرى بأرباحها الفاحشة، وهي صفقات تتلاقى فيها مصالح النافذين سياسياً مع رجال الأعمال ـ القطط السمان ـ والذين غالباً ما يمثلون شركات أجنبية ذات خبرات، والأهم أنها تتيح الفرصة لجني الربح الحرام بلا مساءلة: كم يدفع المرء لتحاشي الاختناق بالنفايات وهي تسد عليه الطرق وتلوث الهواء الذي يتنفسه وتشعره ـ هو بالذات ـ أنه مجرد استثمار في عيشه كما في نفاياته، وأن مؤسسات دولته، بما فيها تلك التي يفترض أنه ينتخب مجالسها، لا تهتم لأمر صحته وأطفاله وتحول الحد الأدنى من الحياة المقبولة موضع استثمار سيدفع كلفته من رزق عياله؟
على أن بيروت التي يأخذ جماهيرها الغضب إلى الانتفاض ضد السلطة، خصوصاً وأن «الدولة» فيها بمؤسساتها التشريعية (مجلس النواب المقفل منذ أن مدد النواب لأنفسهم آخر مرة أي قبل سنة ونصف السنة) والتنفيذية ـ الحكومة ـ التي يحكمها التوازن الطائفي الذي اختلّ اختلالاً فاضحاً بخلو قصر الرئاسة من رئيس للجمهورية نتيجة الخلافات السياسية ذات الشميم الطائفي والتي تستبطن الدول (عربية وغربية وشرقية).
بيروت هذه التي استكانت، كارهة، لخلو مواقع السلطة، بداية من رئيس الجمهورية، مروراً بإقفال مجلس النواب الذي يتقاضى أعضاؤه مرتباتهم ومخصصاتهم الممتازة ـ سيارة من دون جمارك، وأربعة مرافقين من رجال الأمن لكل منهم، غالباً ما ينتهون أقرب إلى موقع الخدم ـ وصولاً إلى الحكومة التوافقية التي استولدت قيصرياً، والتي يتحكم بمسارها النصاب الطائفي الذي ما أسهل أن يتحول إلى ابتزاز الفراغ في السدة الرئاسية.
بيروت هذه تبدو الآن مشوقة إلى دور الطليعة، عربياً، وتحاول تخطي الحواجز الطائفية والمذهبية ـ التي لطالما كانت ولاّدة زعامات متنابذة ولكنها متكاملة إذ تجمعها الشراكة في المصالح ـ لكي يلعب شبابها دوراً قيادياً بالاضطرار، إذ تعوّدت في الماضي البعيد أن يكون شارعها الصدى للخطاب القومي في مصر (عهد جمال عبد الناصر) ثم للثورة الفلسطينية تطرفاً حتى الوصول لأن تكون عاصمتها، ثم انساقت لأن تقارب دمشق حتى كادت تكون منها، قبل أن يتم تغييب سوريا بالحرب فيها وعليها، وقبل أن تغيّب العراق التشققات التي ضربت وحدة شعبه وهدّدت وجود دولته... فالقاهرة الآن مشغولة بهمومها الثقيلة وهي ما تزال تجتهد لاستعادة روحها وموقعها القيادي الذي لا بديل منها فيه، فضلاً عن غياب بالرغبة أي بالقصد المقصود، وتفضيل عواصم النفط العمل بالهمس واللمس وتحريك الشارع عن بُعد دفعاً للتورط المكلف سياسياً. ومفهوم أن عواصم أخرى تنتظر الإشارات من البعيد القادر متسائلة: هل جاء زمن التغيير؟! هل تم تقسيم المنطقة مجدداً، كمناطق نفوذ، للأميركيين الحصة العظمى ولإيران حصة محترمة، ولتركيا نصيب ما (قد يكون في الأرض السورية؟) وللسعودية ـ كبديل من مصر أو بالشراكة معها ـ نصيب «العرب»؟
يكتب كثيرون ويخطب آخرون ويطل عبر برامج «التوك شو» التي صارت تحتل مساحات واسعة في الفضائيات العربية متحدثون بارعون بالفصحى أو بالعامية يوزعون منطقتنا العربية حصصاً للدول (كبديل مستحدث من «سايكس ـ بيكو»)، ثم يختمون تحليلاتهم العميقة باستنتاج حزين: لا نملك غير انتظار إتمام الصفقة التي عنوانها الاتفاق النووي الإيراني، في حين أن تفاصيلها تتصل بمستقبل دول المشرق العربي، بدءاً من ساحل البحر الأبيض المتوسط وحتى اليمن على البحر الأحمر.
هل اندثر العرب؟ هل فقدت ملايينهم الكثيرة إرادتها وقدرتها على الفعل، وبات عليهم ـ مرة أخرى ـ أن ينتظروا ما تقرّره الدول الكبرى أو المؤثّرة حول مصيرهم كشعوب ومصائر بلادهم كدول (بغض النظر عن الفاشلة منها أو الناجحة)؟!
هل سقطت رايات الوطنية والقومية والمطامح التقدمية و «المحافظة»، وبات علينا أن ننتظر، فقط ننتظر، ما تقرره لنا «الدول»؟!
ثم، هل بات قدراً على الشعوب العربية أن تتحول انتفاضاتها إلى مشاريع حرب أهلية، أو إلى مذابح في الشوارع يرتكبها النظام ليقضي على «التمرد» في مهده بذريعة مكافحة الشغب وحماية الاستقرار وتحصين الدولة التي هي ضمانة حياة لرعاياها، بغض النظر عن مستوى العيش فيها؟
طال الحديث عن لبنان، وعن بيروت التي لها في ذهن العرب صورة العاصمة الملعونة، الممتعة، المتحررة، التي تتقدم على سائر العواصم العربية بكونها تجمع الشرق والغرب، النهوض الثقافي والفني، المتعة والبهجة وحب الحياة حتى في ضواحيها الفقيرة، ثم... الديموقراطية، ولو شوهاء. يكفي أن الشاشات تعرض آراء قوى وأطراف وأحزاب وتنظيمات وشخصيات يختلفون في تصوير الواقع، ويتباينون في الاستنتاج إلى حد التناقض بل والتخاصم أحياناً. قد يكونون طائفيين أو موالين لزعامات طائفية ولكنهم يشتمون الطائفية والطائفيين.
بيروت مدينة الجامعات (التي يقارب عددها الإجمالي نحو خمسين جامعة)، برغم أن واحدة منها قد تكون الأفقر هي «الجامعة الوطنية» أي التي أنشأتها وتتعهّدها الدولة، والباقي تتوزعه جامعات خاصة، بينها الأميركية والفرنسية، وبينها التي تتبع كنائس أو هيئات دينية (مسيحية وإسلامية)، وبينها التي يرتكز ترخيصها وتصدر شهاداتها عن الجامعة الأم، والتي قد تكون أميركية الجنسية، ولو في جزر هاواي، أو في بعض دول أوروبا، ولكنها «أهلية» بمعنى أنها جامعة خاصة ولا تتبع للدولة.
في الثلاثينيات وحتى الخمسينيات من القرن الماضي، كانت جامعة دمشق هي عنوان الفخار للمحامين والأطباء اللبنانيين الذين درسوا فيها، ومن الخمسينيات حتى نهاية الستينيات، كانت جامعة القاهرة (وجامعة الإسكندرية) هي منهل الدارسين من لبنان، إضافة إلى الجامعة الأميركية في بيروت ومعها الجامعة اليسوعية (الفرنسية) وقبل أن يستكمل إنشاء الجامعة الوطنية.
أعتذر إن كنت أطلت الحديث عن لبنان الذي تحتدم فيه الأزمة السياسية في ظل نظامه الذي يكاد يستعصي على الإصلاح: فهو الآن بلا رئيس للجمهورية اعتاد اللبنانيون أن تختاره لهم الدول (الأكثر نفوذاً بين العرب، سوريا لفترة، ثم مصر عبد الناصر لفترة أخرى، ثم سوريا بشراكة مع السعودية في السنوات العشر الأخيرة) ومعها بطبيعة الحال الولايات المتحدة الأميركية.
لكم اختلف المشهد من خلال لبنان اليوم عنه في الماضي:
فالحرب في سوريا وعليها تطرح مسألة كيانها السياسي للنقاش، وتدور المشاورات بين «الدول» أجنبية بالأساس وعربية بالتبعية، حول «كيانها» السياسي، وهل تبقى دولة موحدة، أم ينتهي الصراع بفيدرالية (طوائف؟).
أما في العراق، فإن المنازعات والصراعات السياسية بين قوى من الماضي تتنازع النفوذ على قاعدة طائفية تهدد مصير هذه الدولة التي وصفت في ماضيها بأنها بروسيا العرب، وتطرح الفيدرالية على قاعدة طائفية (شيعية ـ سنية) ثم عنصرية لكي يكون للأكراد إقليمهم الذي يطمح بعض قيادييه لتحويله إلى «دولة مستقلة» تقاسم الدولة المركزية الثروة الوطنية مع حفاظها على حصتها من مصادر الطاقة الواقعة داخل «حدودها» التي تفصلها الحواجز عمّا كان «الوطن الأم».
وها هي دولة اليمن مطروح مصيرها على جدول أعمال «الدول»، لا سيما بعد الحرب فيها وعليها التي تشنها «عاصفة الحزم» السعودية.
أما مصر، فمشغولة بهمومها الداخلية الثقيلة التي تشغلها عن التطورات التي تهزّ، إضافة إلى أقطار المشرق العربي، جارتها، ليبيا التي تكاد تتحول إلى قاعدة لـ «داعش» وشقيقاتها من منظمات أو جبهات التطرف بالشعار الإسلامي.
برغم كل شيء، يكاد العرب «يحسدون» لبنان ممثلاً في أذهانهم ببيروت ومصايف الجبل، على استقرار كيانه (ودولته التي كانت دائماً وستبقى أضعف من النظام الذي تقوم عليه فيرعاها ويحفظها...).
وهذه ليست شهادة لغد عربي أفضل، مع الأسف الشديد.