فى زحمة الأحداث السياسية والحربية والتطورات غير المسبوقة التى يشهدها العالم بعنوان دونالد ترامب يدفع العرب أثمانا فاحشة لحفظ الحد الأدنى من عوامل استقرارهم وحقهم بمستقبل أفضل.
أخطر ما يحط من شأن العرب، كأمة وكدول، تنازلاتهم المتوالية والتى تكشف فرقتهم وتهاوى مكانتهم فى العالم، فى ما يتصل بقضيتهم المقدسة: فلسطين..
كانت فلسطين، قبل قرن تماما، بلدا طبيعيا بأهله ولأهله، تتوزع ــ إداريا ــ ولايات عثمانية.. ومع الحرب العالمية الثانية احتلها البريطانيون وأخضعوها لانتدابهم، وابتدعوا إمارة شرقى الأردن لاسترضاء الهاشميين، على حساب سوريا، وأكملوا إنجازهم باحتلال العراق، الذى منحوه، أيضا للهاشميين، بينما أعاد الفرنسيون ــ معهم ــ إعادة صياغة «الدولة السورية»، ثم «الدولة اللبنانية»، بعد إضافة «الأقضية الأربعة» إلى «المتصرفية» فى جبل لبنان التى فرضها الغرب على العثمانيين.
خلال فترة الانتداب هذه، وبتشجيع بريطانى (ودولى) بدأت هجرة منظمة ليهود الغرب إلى فلسطين، تحقيقا «لوعد» وزير خارجية بريطانيا، آنذاك، اللورد بلفور بتحويلها إلى «وطن قومى ليهود العالم».
وفى التاريخ أيضا، أن شعب فلسطين حاول، جاهدا، التشبث بأرضه، ومقاومة تهويد بلاده، بالضغط المتواصل (عسكريا، عبر العصابات المسلحة..) والشراء المنهجى لأراضى غير الفلسطينيين فيها، وكان بينهم «أعيان» لبنانيون وسوريون وعراقيون ومصريون... إلخ.
وخلال الحرب العالمية الثانية توفرت الفرصة لتدريب عشرات الألوف من يهود أوروبا فى الجيوش الغربية، تمهيدا لإرسالهم كقوى مقاتلة حسنة الإعداد إلى فلسطين، تمهيدا لقتال شعبها وإلحاق الهزيمة به وبمن سانده من دول العرب بجيوشهم الوليدة والضعيفة.
فى 15 مايو 1948 كانت الهزيمة العربية قد اكتملت، فأعلن قيام «دولة إسرائيل»، وطرد شعب فلسطين العربى من أكثر من نصف مساحتها، ليتحول إلى «لاجئين» فى الأقطار العربية القريبة (الأردن، لبنان، وسوريا.. مع نتف من هذا الشعب وجدت طريقها إلى العراق ومصر وبعض أقطار الخليج.. بتسهيلات بريطانية)!
صارت فلسطين دولة لغير أهلها، وصار أهلها لاجئين، بعضهم فيها وأكثرهم خارجها.
صارت فلسطين مِزَقا: أقيمت على بعض أرضها «دولة قومية ليهود العالم»، كما صار اسمها، الآن، فى حين «منحت» إمارة شرقى الأردن مع الضفة الغربية لهذا النهر، إلى الأمير عبدالله فصيرها مملكة هاشمية..
ولسوف ينتظر العدو الإسرائيلى هزيمة العرب ممثلين بمصر وسوريا فى حرب 5 يونيه 1967، لكى يتقدم فيحتل الضفة الغربية لنهر الأردن (ومعها شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان فى سوريا).
بعد حرب استنزاف طويلة، وهدنات متقطعة، اشترك جيشا مصر وسوريا فى حرب أكتوبر (رمضان) 1973 (حرب العبور) التى انتكست قبل أن تحقق أهدافها، وارتضى الرئيس المصرى الراحل أنور السادات أن يذهب إلى إسرائيل، وأن يقف أمام الكنيست الإسرائيلى عارضا «الصلح»، الذى سرعان ما سوف تتدخل واشنطن لرعايته فى منتجع الرئيس الأمريكى... فى كامب ديفيد، قرب العاصمة الفيدرالية الأمريكية.
ثم لحقت سوريا بمصر، فتوصلت تحت الرعاية الأمريكية أيضا، إلى «هدنة» مفتوحة، استعادت معها بعض الأرض، فى حين بقى جيش الاحتلال الإسرائيلى فى هضبة الجولان الاستراتيجية.
***
كانت أجيال من العرب تحلم بوحدة قومية تنتج دولة عربية موحدة وقوية بحيث تستعيد فلسطين، وتحرر ما تبقى من الأقطار العربية تحت الاستعمار الغربى ــ وانتهى الأمر بأن غدا معظم الوطن العربى خاضعا لإرهاب «دولة إسرائيل» القوية بالدعم الأمريكى المفتوح والرعاية الدولية الشاملة.
أما اليوم، وبعد سبعين عاما من إقامة إسرائيل بالقوة على أرض فلسطين فإن «العرب» مجموعة دول مقتتلة، أغناها «باع» القضية مقررا التعامل مع الأمر الواقع، والأفقر يعيش حالة من الانقسام بالأمر والتصدع نتيجة المغامرات العسكرية البائسة (حروب الرئيس العراقى صدام حسين ضد إيران، لمدة سبع سنوات، ثم إقدامه على اجتياح الكويت، وهزيمته على يد تحالف سياسى ــ عسكرى تحت القيادة الأمريكية، شاركت فيه بعض الوحدات العسكرية العربية.. تمهيدا لإقدام القيادة الأمريكية، تحت رئاسة جورج بوش الابن على احتلال العراق ــ فى العام 2003 وتسليم الحكم فى أرض الرافدين بدولته المهدمة إلى «الشيعة» لتأجيج الفتنة بين الشيعة فيه والسنة، بما ينسى الجميع واقع الاحتلال الأمريكى وتدمير البلاد..).
بالمقابل فإن سوريا تعيش منذ سبع سنوات سلسلة من «الحروب» عليها تشارك فيها دول عدة، عربية وأجنبية... ومع أنها قد تجاوزت مخاطر تمزيقها إلا أنها «بلاد الخراب»، اليوم، وتحتاج إلى سنوات مديدة لإعادة إعمارها وعودتها إلى دورها كمركز قيادى عربى مرموق.
وبطبيعة الحال فإن دولا كثيرة، عربية وأجنبية، قد شاركت فى تأجيج الحرب فى سوريا وعليها، بينها مع الأسف دول عربية بعنوان قطر وبعض الخليج، بينما حافظت مصر على ما تبقى من العلاقة التاريخية مع شريكتها فى دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، التى لم تعمر أكثر من ثلاث سنوات.
***
كيف السبيل إلى فلسطين فى ظل هذه الأوضاع العربية المدموغة بالهزيمة؟
وكيف يمكن منع «الدولة القومية ليهود العالم ــ إسرائيل» من استكمال مشروعها الاستعمارى الجديد ــ القديم الذى ينصرف العرب عن مواجهته بل ويهلل له بعضهم نكاية بالبعض الآخر، ونفاقا للإدارة الأمريكية بقيادة المهووس بالسلطة والمال دونالد ترامب، الذى أعطى العدو الإسرائيلى الضوء الأخضر بالموافقة على دولته العتيدة حين قرر نقل سفارته من تل أبيب إلى القدس المحتلة، مشجعا دول الغرب على الاقتداء به..
إن هذا المشروع الإسرائيلى الجديد ــ القديم يعنى، بداية، طرد فلسطينيى الداخل (أى الذين ما زالوا يقيمون تحت الاحتلال الإسرائيلى) إلى خارج أرضهم، كما يسقط ــ حكما ــ السلطة الفلسطينية التى لا سلطة لها، ويخلخل التوازن الهش فى الأردن، ويهدد سوريا ولبنان.
مع ذلك، فالعرب فى شغل شاغل عنه، يمضون وقتهم فى صراعات عبثية (الحرب فى اليمن، والحرب فى سوريا وعليها ــ اندثار دولة ليبيا فى الصراع على السلطة الجديدة فيها، اختلال الوضع فى لبنان الذى بين ضماناته استقرار الأوضاع العربية بعنوان سوريا، انشغال مصر بهمومها الداخلية الثقيلة، وكذلك تونس، غياب الجزائر عن مسرح العمل العربى المشترك، وانزواء المغرب بعيدا عن المشكلات التى لا تنتهى لإخوانه العرب..).
***
إسرائيل، الدولة القومية ليهود العالم، تقوم أمام عيون العرب المفتوحة بالدهشة إلى حد الانبهار، والخوف إلى حد الادعاء إنهم لا يرون ولا يعرفون بل ولا يريدون أن يعرفوا.. فهم مشغولون بصراعاتهم التى لا تنتهى ضد بعضهم البعض (حرب اليمن، مثالا، وكذلك الحروب فى ليبيا وعليها، والصراع على سوريا، وترك العراق ينزف دولته وثروته، وترك مصر لهمومها الثقيلة..).
من أين يجىء الغد العربى، وكيف يمكن أن يكون أفضل؟
تلك هى المسألة..
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع