بقلم طلال سلمان
انطفأ الفرح بانتهاء دهر الفراغ في مواقع السلطة العليا: رأس الدولة، والحكومة، وعودة الروح ـ موقتاً ـ إلى المجلس النيابي، مباشرة بعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية.
يوماً بعد يوم، يشعر اللبنانيون الذين افترضوا أنهم قد استطاعوا، أخيراً، ان يعرفوا طريقهم إلى «غد طبيعي»، في دولة عادية، مكتملة المؤسسات، ولو شوهاء، وبعيدة عن تمثيل طموحات شعبها «الأممي»، بشيء من خيبة الأمل يتكاثف على مدار الساعة ليعيدهم إلى حيث كانوا قبل الحدث الخطير: النجاح في انتخاب رئيس للجمهورية في المجلس النيابي الذي كان يرفض الاعتراف بشرعيته، مع أنه عضو فيه، بل ورئيس كتلة نيابية وازنة... والمباشرة في استشارات (ملزمة) لاختيار رئيس جديد للحكومة، كانت نتيجتها ـ هي الأخرى ـ العودة إلى الماضي بأمل الاندفاع إلى المستقبل المنشود.
وفي الاستشارات، كما على هامشها، استعيدت المشاهد والتصريحات المألوفة، مع إضافة نوعية من «القوات»، قدمت فيها نفسها كالشريك الكامل «للرئيس» في عهده الميمون، باعتبارها الصوت المثبت لشرعيته «المارونية» ـ كأنما هو يحتاجها ـ مطالبة بتعويضها «حقها المغبون» منذ ما قبل السجن إلى ما بعد «دولة معراب».
وكان ذلك مؤشراً جديداً على أن «العهد الجديد» يستكمل إطلالته الأولى بالوجوه القديمة ذاتها معززة بحزب منفوخ يريد تثبيت الشراكة مع «صاحب العهد» من موقع التمثيل الماروني، لاغياً كل من عداه من الموارنة بل من المسيحيين... وقافزاً من فوق الحقيقة الثابتة عن الحلف الاستثنائي بين «العماد» العائد من المنفى زعيماً لكثرة من المسيحيين و «السيد» الذي كان وما يزال يمثل الوجه الأنقى للمجاهدين من أجل تحرير الأرض والإرادة في لبنان من محتلها الإسرائيلي ومن مكبليها بقيود الطائفية والمذهبية... وان هذا الحلف الذي طمس صفحة «التمرد» وفتح أمام «الجنرال» الطريق إلى الرئاسة، كان الأساس في قيام «العهد الجديد»، خصوصاً وقد تعزز بإقدام الرئيس الحريري على تنكب هذا الترشيح بالاضطرار المجزي والذي سيعيده إلى رئاسة الحكومة.
هكذا يبدأ «العهد الجديد» بوجوه قديمة، ويباشر «التغيير» بالعودة إلى الوراء و «الإصلاح» برجال معروف فسادهم وموصوف.. فيهم بعض المحسوبين عليه مباشرة، وفيهم من هو محسوب على حلفائه الطارئين.
فالحاضر الأشوه انتخب الماضي المتمرد على «بعض» النظام قبل أن يقاتل الطموح إلى التغيير بالشعار المستنفر للعصبيات، وأخطرها الطائفية.
من التظاهرة التي تستدعي ذكريات «الحربين»، ولو بالملابس المدنية والعلم اللبناني (من دون إصلاح أو تغيير)، إلى «علم الماضي» ذي الأبعاد القياسية والذي أفردت له صدارة القصر الجمهوري، أمس، في احتفال يستعيد الماضي على حساب الحاضر والمستقبل، إلى هجوم بعض الأنسباء والأقربين والمعاونين القدامى، إلى «تطهير» دوائر القصر الجمهوري من «الغرباء»... كل ذلك لا يبشر لا بإصلاح ولا بتغيير... حتى ليمكن القول إن الحاضر الأشوه قد انتخب الماضي المتمرد على «بعض النظام»، قبل أن يعود إلى الاعتراف باتفاق الطائف بعد 27 عاماً شهدت، عقب إنهاء «التمرد»، عهدَين استثنائيين تم تمديد المدة الطبيعية (6 سنوات) لكل منهما ثلاث سنوات إضافية، مع عهد باهت أعقبه فراغ رئاسي لمدة سنتين وتسعة أشهر إلا قليلاً.
وها هي «حرب» الحكومة الجديدة تستعيد تقاليد التأليف المعهودة التي تذهب بتوقعات الإصلاح والتغيير جميعاً، مستنفرة الطوائف والمذاهب عبر «الثقل النوعي» الذي تحاول «القوات» فرضه على «العهد الجديد» من موقع الشراكة الكاملة بوصفها تمثل عموم المسيحيين، من الموارنة إلى الكاثوليك فإلى الأرثوذكس، ومن دون أن تنسى الأرمن (وإن كانت تتقصد أن تنسى سليمان فرنجية عن طريق تصنيفه «عدواً للعهد»، مع أنه منه وفيه بقوة الحليف المشترك الذي كان صاحب الأسبقية في إسقاط «الفيتو» عن الجنرال العائد زعيماً شعبياً بدل معايير «الزعامة» في الوطن الصغير).
مرة أخرى يثبت هذا النظام الفريد أنه عصي على الإصلاح والتغيير، وأن التجربة الفريدة التي قادها الرئيس (اللواء) فؤاد شهاب والتي نجحت جزئياً، قبل أن يلتهمها أركان النظام الفريد، قد دفعته إلى اليأس فرفض التمديد والتجديد واعتكف حتى مات كمداً، وحيداً إلا من زوجته الفرنسية الوفية التي قدمت نموذجاً غير قابل للتكرار في وطن الأرز!
عشتم وعاش لبنان... في ذكرى استقلاله.