بقلم طلال سلمان
لا شك في أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية هي الحدث العالمي الأكثر طرافة وإثارة، والحافل دائماً بالمفاجآت التي غالباً ما تكون صاعقة. وليست الانتخابات الأخيرة التي حملت «الشخصية الكريهة» إلى سدة الرئاسة في أقوى وأغنى دولة في العالم استثناء في نتائجها التي جاءت من خارج التوقع، ولكنها شكلت صدمة عنيفة للرأي العام، داخل الولايات المتحدة الأميركية أساساً، ثمّ في سائر أنحاء العالم، وإن كان الجميع قد اضطر للتسليم بهذه النتيجة احتراماً للديموقراطية بنسختها الأميركية التي لا شبيه لها في أي مكان، علماً أنها تعتمد قواعد وُضعت قبل قرنين ونيّف، حين كانت «الدولة الأغنى في الكون» تختبئ في قلب عزلتها، منطوية على ثرواتها الخرافية في أراضيها الممتدة باتساع قارة عظمى، موفرة الملجأ والفرصة للعقول والكفاءات وأبطال المغامرات ممن ضاقت بهم بلادهم واستقــــبلتهم «الأرض البكر» متيحة لهم فرص العمل والقفز إلى الثروة بمختـــلف الوسائل، لا فرق بين أن تكون مشروعة أو مخالفة، ولكنها محميّة بقوة السلاح.. أو المال.
من قبل، حملت الانتخابات الرئاسية «مرشحين كريهين»، وبلا تاريخ في الإنجاز والإبداع، ولكن طبيعة النظام بقوى السيطرة الكونية فيه مكّنتهم من توظيف «المهابة» الناتجة عن القدرات المذهلة للدولة الأغنى والأقوى في العالم، في تحقيق أهدافهم الأمبريالية من دون مقاومة تقريباً، لا سيما في الفترة التي رافقت تهاوي القوة الكونية الثانية، الاتحاد السوفياتي، ثمّ تعاظم النفوذ الأميركي وتمدده إلى مختلف أرجاء الكون، عندما غدت الولايات المتحدة الأميركية بلا منافس لا في ثرواتها الخرافية، ولا في قدراتها العسكرية، ولا خاصة في استقطابها الكفاءات الخارجة من بلادها الفقيرة أو المحكومة بأنظمة دكتاتورية تبحث عن فرصة لبيع إبداعها وتفوقها العالمي وقدراتها على بناء عالم أكثر تقدماً، وإن بقي أقل عدالة.
كــانت مفاجأة فوز نصف المسلم ذي الأصول الإفريقية باراك أوباما بالرئاسة قبل ثماني سنوات قد شكلت نوعاً من التزكية المعنوية للنظام الأميركي الذي حوّل الاستعمار التقليدي بالعسكر إلى نـــوع من الهيــمنة الإمبريالية على القرار الكوني بالقوة المطلقة وبغـــياب المنافس لـــيس فـــقط بالقدرات العسكرية، بل أساساً بالتفوّق العلـــمي والسبق الهائل في مجالات الإنتاج، وعبر استقـــطاب الكفاءات متعددة الجنســـيات من سائر مناطـــق الدنيا، ومناخ الحرية الذي يستفـــيد منه «الأقــوى» تحـــت شـعار «دعه يعمل.. دعه يمر».
أما اليوم، فيمكن القول إن النظام الأميركي عاد إلى سيرته الأولى بعد الاستثناء الذي مثله انتخاب باراك أوباما رئيساً ثمّ التمديد له لولاية ثانية، مؤكداً عبر دونالد ترامب أنه عصي على الإصلاح، كما يفهمه الــعالم خــارج هــذه الإمبراطورية الكونية!
الأسئلة كثــيرة ومقــلقة، في الداخــل الأميركي، كمــا خارج هذا «العالم المذهّب» الذي تحكمه قوانين خاصة ناتجة عن طبيعة تكوينه، وأنهار الدم التي أُسيلت ظلماً وعدواناً في إبادة أهل البلاد الأصليين، والتي بفضلها صار القادة المؤسسون من أمثال جورج واشنطن ومن وصل بعده إلى سدة الرئاسة «أبطالاً وطنيين» ورموزاً للإبداع الأميركي والفرادة فــي بنــاء الدول بجماجم أهلها الأصليين.
ما علينا. ذلك في التاريخ المكتوم الذي طمسه الانبهار بالتفوّق غير المسبوق لهذه الدولة الكونية التي فتحت أرضها ومؤسساتها للكفاءات الوافدة من مختلف جهات الأرض، وأفادت من ثرواتها الطبيعية الهائلة في أراضيها الشاسعة التي تتجاوز مساحتها قارتين أو أكثر، حــتى حققت التفوق الباهر في مختلف مجالات الإنتاج والإبداع، مستفيدة من إدخال العقول الوافدة في دورة إنتاجها الهائل.
أما في ما يعني الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أفضت إلى فوز «المتوحّش، المغرور، الرجل البلا قيم، فاحش الثراء بوسائل غير مشروعة، ناقص الثقافة إلى حد الجهل بالبديهيات، «كاوبوي» الدولار، المتجــاوز على القانون، المزواج، الذي عرف له ثلاث زوجات عدا العشيقات، الذين خجل كثير من الأميركيين من الاعتراف بأنهم قد انتخبوه، والذي جاء «من داخل النظام» ومن خارج الرضا الشعبي بدليل تظاهرات رفضه المستمرة حتى اليوم، المغرور، الذي استقبلته أوروبا بإعلان احتقارها له.. أما في ما يعني هذه الانتخابات الرئاسية التي لم يستقبلها بالترحاب إلا بوتين روسيا، فإن أهل النظام العربي ـ الذين يشابهون ترامب في مســاوئه وعوراته القاتلة ـ قد هللوا لنجاحه المفاجئ، وكادوا يطيرون إليه مرحبين، وهنأوا أنفســـهم بأن «شبيهاً لهم» في عوراتهم ومباذلهم قد اعتلى سدة حكم العالم، وأن لا خطر عليهم، ولا مطالبة لهم بالتغيير أو بالإصلاح، طالما أن الخير في صــــناديقهم وفير، وقد وصل رجل الصفقات إلى سدة الحكم في أخـــطر موقع في العالم.. وعليهم الأمان إذاً فلا يقلقون!
لقد تسابق أركان النظام العربي إلى تهنئة هذا «الوعل» الذي يسهل عليهم «التفاهم» معه باللغة إلي لا يعرفها إلا أمثاله وأمثالهم ممن جنوا الثــروات بــلا تعب، وبمزيج مــن المصــادفات التاريخــية والجغرافية (حتــى لا ننســى النفط والغاز).. لا يهم أن يكون ترامب قد ألقى خطبه الأولى، بعد تتويجه رئيساً، أمام اللوبي الصهيوني، وأنه قد أطلق وعوداً مفتوحة وغير مسبوقة في تأييد العدو الإسرائيلي في مشاريع التوسع الاستيطاني على حساب شعب فلسطين وحقه في أرضه، وعن عزمه الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة أبدية للكيان الصهيوني. ولا يهم أن يكون أحد أسوأ الرؤساء تهذيباً وأقلهم معرفة بالعالم، وأن يكون محكوماً بعقلية المضارب العقاري..
ربما لهذا كله يحق للمراقب أن يتساءل: هل هو «الشعب» نفسه الذي انتـــخب باراك أوباما، رجل القانون، المثقف المميّز، فائق التهــــذيب... وكيف قُدّر لهذا الرجل أن يخترق سور الانتخابات الرئاســية الأميركية في المرحلة بين المهــــووس جورج بوش الابن وبين المرابي صياد النساء دونالد ترامب؟ وهل هو نفسه الذي انتخب من قبل جــــون كنيدي ثمّ انتخب بعده الكاوبــوي رونالد ريغان؟
في أي حال، ليست هذه أول مفاجأة يصدمنا بها المجتمع الأميركي متعدّد الأصول في هويات «مواطنيه» ـ وترامب أميركي منذ جيلين فقط ـ والديناميكي في حركة تقدّمه التي اجتمعت في إطلاقها ثمّ في اندفاعتها المتوالية نخب متعددة الجنسية والأصول، في مجتمع لا يهتم للضعفاء، ولا يُخفي عنصريته، وإن كان قد نجح في استيعاب المهاجرين الذين هم أساس وجود هذه الدولة العظمى، واستــقطب أبرز العقول في العالم وأخطرها، بإغراءات متعددة، أخطرها الجنسية المذهّبة..
على أن هذه كلها ملاحظات من الخارج، وما بقي، كأمر واقع، أن دونالد ترامب قد غدا رئيس أغنى وأقوى دولة في العالم بخطاب عنصري يدلّ على جهل فاضح في السياسة، وإن كان متميّزاً في جني الثروة، بغير تدقيق في أسبابها ووسائلها وما رافقها من فضائح. إنه كابوي مصفّح بالذهب، ثمّ إنه مغرور، متوحش، يتجاوز القوانين بغير تحسب أو ندم.. فضلاً عن أنه سيدخل معه إلى البيت الأبيض أكبر أسرة في تاريخه، إذا مــــا قرّر «جمع الشمل»، وجاء بزوجاته الثلاث، ودون احتساب العشيقات، والأولاد الذين لم يعترف بهم.. ولذا خجل كثيرون ممن انتخبوه من الاعتراف بهذه الخطيئة.
إنـها أميركا! وترامب أحد أخطائها أو خطاياها التي لا تمنع من تحكمها بمقدرات العالم، شرقاً وغرباً.