لتركيا، بما هى وارثة السلطنة العثمانية التى حكمت باسم الخلافة الإسلامية ثم تخلت عنها، اعتزازا «بقوميتها»، تاريخ غير مضىء فى المنطقة العربية.
أما تركيا الأتاتوركية فتاريخها، مع «العرب» خاصة، حافل بالمظالم والقهر وإنكار الهوية والاحتقار ثم التعالى والادعاء الفارغ إلى حد التخلى عن لغة القرآن (الحرف العربى) التى كانت السلطنة تعتمده، والهجرة إلى لغة هجينة حرفها غربى وتركيبتها خليط من العربية واللغات الغربية وبعض اللهجات التركية المنقرضة.
وإذا ما تجاوزنا «السلطنة» وتوقفنا عند مرحلة حكم «الاتحاد والترقى» واجهتنا الحرب العالمية الأولى التى تحالفت فيها تركيا مع ألمانيا، وكان ضحاياها من العرب فى مصر وفلسطين ولبنان وسوريا ــ أكثر من ضحاياها من الأتراك، ثم إنها انتهت بتقاسم الأرض العربية بين الإنجليز والفرنسيين (ويهود ــ المشروع الإسرائيلي).
أما فى الحرب العالمية الثانية فقد تلقى أتاتورك، نتيجة وقوفه «على الحياد» بين التحالف الغربى وألمانيا النازية، هدية ثمينة قدمها له الغرب على حساب العرب إذ أقطعه ولايتى كيليكيا وإسكندرون السوريتين فجعلهما «بعض أراضى تركيا»، كما رغبت فرنسا فى أن «تهديه» شمالى العراق (الموصل) لكن مؤشرات وجود النفط فى تلك المنطقة جعلت بريطانيا تصر على عراقية تلك المنطقة التى وضعتها تحت انتدابها ابتداء من العام 1920.
على هذا فقد حكم شيء من التوتر العلاقات التركية ــ العربية بعنوان سوريا ومظالم السلطنة وصولا إلى مذابح الحرب العالمية الأولى التى دفع فيها عرب المشرق ثمن الهزيمة التركية أمام الحلفاء عند قناة السويس، وتراجع فلولهم ــ بكل ما نهبت و«أسرت» من جنودها العرب خلال عودتها إلى بلادها.
وبطبيعة الحال فإن قدرا من التوتر ظل يسود العلاقات العربية ــ التركية، بعنوان سوريا التى كان يستحيل أن تنسى كيليكيا وإسكندرون اللتين اقتطعهما أتاتورك منها بفضل التواطؤ الغربى معه.. خصوصا وأن نسبة كبرى من أهالى هاتين المحافظتين قد خرجت إلى الساحل السورى الممتد (اللاذقية ــ طرطوس) قبل أن تنتقل إلى حمص ودمشق وسائر المدن السورية.. وبين هؤلاء أدباء وشعراء ومفكرون وقادة سياسيون لعبوا دورا فى تعميق الفكر القومى وأسهموا فى الحياة السياسية السورية بما فى ذلك الأحزاب المنادية بالعروبة (البعث، مثلا).
ويمكن القول إن هذا التوتر ظل قائما، بل إنه وصل إلى حد تهديد تركيا بشن الحرب على سوريا حافظ الأسد «لاستضافتها» بعض القيادات التركية المعارضة (أوغلان)، ما اضطر دمشق أن تطلب إليه الخروج منها، فاصطادته المخابرات التركية فى بعض أنحاء إفريقيا الاستوائية.
أما فى عهد بشار الأسد فقد انقلبت السياسة السورية إزاء تركيا رأسا على عقب، وزار الرئيس السورى أنقره أكثر من مرة، كما جاء الرئيس التركى أردوغان إلى دمشق مرات عديدة (وعبر إلى لبنان أيضا).. وتنازل الأسد الابن عن الحق التاريخى فى كيليكيا وإسكندرون وفتح أبواب سوريا للبضائع والصناعات التركية ما ألحق أضرارا بليغة بالصناعة السورية الوطنية.
***
المحطة التالية المثيرة للانتباه فى العلاقات العربية – التركية عموما، والسورية ــ التركية خصوصا، يمكن تحديدها مع تقدم جحافل «داعش» أو تنظيم «دولة الخلافة الإسلامية» بقيادة الخليفة «أبوبكر البغدادى» لاحتلال الموصل فى شمالى العراق، عابرة مئات الأميال فى البادية السورية والصحراء التى تفصل وتصل بين الحدود العراقية والتركية، من دون أن تراه الطائرات الأمريكية أو الجيوش العراقية أو حتى الطائرات دون طيار التى كانت تجوب السماء التركية – العراقية – السورية.
ثم كان أن هُزمت جحافل «داعش» فى العراق، وكانت قد احتلت أكثر من نصف مساحته، وانسحبت – سبحان الله ــ من دون أن تراها القوات التى كانت «تغلق» حدود سوريا ــ الحرب الضارية فيها والتى لم تكن تركيا بعيدة عنها، فلا هى اعترضتها ولا اشتبكت معها.. بل تركتها «تتبخر» فى الصحراء التى جاءت منها!
وبالتأكيد فإن المقبل من الأيام سيكشف الكثير والخطير من أسرار «داعش»، والقوة التى سهلت له تحركاته وتنقلاته فى آلاف الكيلومترات من الأرض السورية ــ والعراقية على الحدود المشتركة مع تركيا.. ولا سيما بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية على الخط ودعمها لقوات كردية فى سوريا، وتمكينها – بفضل دعم الحوامات والدبابات الأمريكية ــ من احتلال مدينة الرقة السورية (التى بناها الخليفة العباسى هارون الرشيد على ضفاف نهر الفرات، وأعطاها اسمها) ومساحات واسعة فى الشرق والشمال من سوريا.
تبقى إيران التى تلعب دورا مؤثرا فى سوريا والعراق، والتى تجمعها ــ حتى الساعة ــ علاقات جيدة مع تركيا.
ثم روسيا التى دخلت مسرح الشرق الأوسط بقوة، سياسيا واقتصاديا – ومن بعد عسكريا، كما فى سوريا وتركيا ومعهما إيران، ومؤخرا دول الخليج العربى بدءا بالسعودية وانتهاء بقطر (أقله كبائع سلاح متطور)!
وهكذا تتحرك فوق أرض المشرق العربى الآن، طوابير من القوات الأجنبية (أمريكية، إيرانية، تركية) مستغلة ومستفيدة من الانقسام العربى الذى تجاوز التنافس والخصومة وكاد يصل إلى حافة الحرب (فى الداخل أو مع الآخر ولو شقيقا..).
بالطبع هناك تناقضات وتضارب فى المصالح قد تتسبب فى توترات واحتكاكات وصدامات محدودة (كما بين القوات التركية التى تغزو الآن شمالى سورية بذريعة مقاتلة الأكراد المدعومة بالطيران والمدرعات الأمريكية)، وقد تهدد علاقات التحالف التاريخى.
لكن الثمن، حتى إشعار آخر، يدفعه «العرب» فى كل من العراق وسوريا وبعض أنحاء الخـليج؛ حيث لتركيا قاعدة عسكرية فى قطر، كيف السبيل إلى وقف الانهيار والفرقة والتفكك وسائر الأمراض التى تضرب الجسد العربى وتنهكه وتجعله مشاعا لكل قادر على أخذه، بدءا بالعدو الإسرائيلى فى فلسطين وما جاورها من أراضٍ عربية، مرورا بسوريا والعراق، وصولا إلى أقطار شبه الجزيرة العربية، السعودية والبحرين والإمارات وقطر؛ حيث القواعد العسكرية الأمريكية وارتهان الاقتصاد للدولار الأمريكى، وارتهان القرار السياسى معه؟!
***
بعد مائة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى التى قسمت فى ضوء نتائجها أقطار المشرق العربى، خصوصا، على المنتصرين (بريطانيا وفرنسا) قبل أن تتقدم الولايات المتحدة بفضل النفط ــ لتضع يدها على شبه الجزيرة العربية، بالشراكة، مع بريطانيا ثم منفردة، وأخيرا بالشراكة مع إسرائيل.. ومن ثم على قرار العرب ليس فقط بالحرب والسلم، بل كذلك على مصائر الدول القائمة ذاتها، والمهدد بعضها بالتفكك وبعضها الآخر بأن يعود إلى «أحضان الاستعمار» راضيا مرضيا.
بعد مائة عام على انتهاء تلك الحرب الأولى، ثم الثانية وما أنتجت، وأخطر ما أنتجه الاحتلال الإسرائيلى بالدعم الغربى (الأمريكي) المفتوح لفلسطين، كيف السبيل إلى تحرير هذا القطر أو ذاك بينما الإرادة العربية مرتهنة للأجنبى (ومن ضمنه الإسرائيلى..)؟!.
والسؤال عن المصير العربى جميع، وبالأقطار جميعا، وليس عن استقلال هذه الدولة أو تلك، فضلا عن أحلام الوحدة وتحرير فلسطين وبناء الغد الأفضل.
نقلا عن الشروق القاهرية