طلال سلمان
لم تعوضنا زيارة العبور الخاطفة للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، بكل ما دار فيها وحولها من لغط وتساؤلات، عميق إحساسنا بالفقد مع رحيل مهندس الوطن الجميل لأهله وبدولته: عاصم سلام.
قيل إن الزيارة المباغتة، والتي اقتصرت على لقاء رئيس الجمهورية، تهدف إلى تنبيه اللبنانيين إلى ما يتهدد بلادهم ودولتهم الصغيرة من مخاطر داهمة في هذه المرحلة الحرجة، حيث تتوه الانتفاضات العربية في غياهب الأصوليات والسلفيات وافتقاد قوى التغيير الفعلية للوحدة، وحيث تكاد سوريا تغرق في دماء أبنائها وتتواطأ عليها «الدول» مستفيدة من تحجر نظامها واختياره العنف للرد على مطلب الإصلاح الذي بشّر به طويلاً ولم يحققه فضاعت فرصة إنقاذ البلاد أو تكاد.
ولكن دولتنا بنظامها الطوائفي الذي فُرض عليها من خارجها، وبالطبقة السياسية الحاكمة، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة، هي التي تلغي «الوطن» وتجعل أبناءه «رعايا»، وتغتال أحلام المبدعين وقدرات المؤهلين بالعلم والكفاءة على بناء «وطن لشعبه».
ولقد توهم عاصم سلام ونخبة من أقرانه المؤمنين بأرضهم بأنهم سيتمكنون، في ظل مشروع إعادة بناء ما هدمه دهر الحرب الأهلية ـ الكونية، من استيلاد عاصمة يستحقها هذا الشعب من رحم المدينة المحزّبة، فتكون دار حياة واحدة، تتميز بجمال عمارتها وميادينها وحدائقها، مع الحفاظ على روحها، باعتبارها أرض اللقاء اليومي بين اللبنانيين جميعاً، في مؤسساتها الرسمية والأهلية وأسواقها الأنيقة والشعبية ومراكز الإدارة والإنتاج والفنادق والنوادي ودور الصحف والمقاهي وصالات السينما إلخ..
قدر عاصم سلام وتلك النخبة من رفاقه الحالمين بوطن أنهم سيبنون مدينة لها قلب.. وناضلوا من أجل هذا الهدف الشرعي والطبيعي. وضع معهم التصاميم المميزة لهذا القلب بحيث تتأكد فيه وعبره وحدتهم. لكنهم سرعان ما تنبهوا إلى أن مشروع إعادة البناء قد تحول بعيداً عن أحلامهم، فغُيبت «الدولة» لتحل محلها «الشركة»، وغُيّب حلم الوحدة بساحة الفراغ المدوي، وطُرد أهالي المدينة إلى خارجها القريب فالبعيد والأبعد، فإذا بها تتحول إلى أرخبيل من الأحياء ـ الجزر، لا اتصال بينها، ولا دار لقاء بين أهلها في مختلف أنشطتهم، وسواء أكانوا داخل أجهزة الدولة أم في مختلف مجالات الإنتاج الخاص.
ولقد كتب المهندس الحالم الآخر هنري إده، عشية استقالته من الفريق المهني المسؤول عن المخطط التوجيهي إلى عاصم سلام يقول: «كنت أيضاً ضمانة لنا بألا يبنى لبنان إلا بأبنائه المحصنين».
كان بين أحلام عاصم سلام تحويل نقابة المهندسين من «جزيرة» إلى دار لقاء بين المؤمنين بالقدرة على بناء الوطن الجميل.
وإضافة إلى المعمار كان عاصم سلام مناضلاً انحاز مبكراً إلى الخيارات الوطنية والعربية، فهو «ابن الشرق من بيروت إلى بغداد والشام وعمان مروراً بفلسطين، حيث تتولد لغة العمارة ومفردات الزينة». وهو قد ساهم في مختلف الجهود التي هدفت إلى ردع المشاريع الصهيونية والرامية إلى تهويد القدس وإزالة معالمها التاريخية.. ولا عجب فالدماء الفلسطينية خالطت دماء أهل «أبو علي سلام» في المصيطبة.
ولأنه على هذا القدر من الوعي السياسي فقد انحاز إلى اليسار، وكان أبرز أبطاله جمال عبد الناصر، أما عدوه الثابت فهو إسرائيل.. وبالمقابل أنكر القيادات المصطنعة التي استولدها اتفاق سايكس ـ بيكو الشهير!
ولقد كتب عاصم سلام، الذي يعرف جيداً مشكلات التنظيم المدني، عن «إشكالات الإنماء الشامل والمتوازن والمتكامل» مع جان تابت ونبيل بيهم وسواهما، و«عمار بيروت ـ الفرصة الضائعة» ثم «الإعمار والمصلحة العامة».
وبين البصمات المعمارية التي تركها عاصم سلام مبنى وزارة الإعلام والسياحة ودار الإذاعة، وترميم مبنى وزارة الداخلية.
أما انخراطه في العمل السياسي فقد بدأ مع ثورة 1958 ضد الرئيس كميل شمعون إلى جانب الرئيس صائب سلام.. والطريف أنه كان، وهو يدعم هذه الثورة، يخطط تصاميم قصر شمعون في السعديات.
بين المفارقات المحزنة أن عاصم سلام سيصلى عليه ظهر اليوم في المسجد الذي وضع تصاميمه الجميلة والمعروف باسم «مسجد الخاشقجي»، ومنه سيشيع ليدفن إلى جانب أهله في مقام الإمام الأوزاعي.
ونعود إلى زيارة الرئيس الفرنسي الذي أعطى لبنان من وقته ساعتين، اتخذ خلالهما موقف المنبه إلى المخاطر والناصح بالحوار وتلاقي الأطراف السياسية المختلفة، من دون أن يغفل عن تأثيرات الوضع المتفجر في سوريا، ثم أكمل رحلته إلى مقصده المذهّب في السعودية.
سيقال كلام كثير، وستطلق تفسيرات وتحليلات عديدة في محاولة فهم هذه الزيارة والغرض منها.
لكن هذا النظام الذي لا يعيش إلا بحراسة من أقامه من «الدول» لا يهتم كثيراً بوحدة شعبه، بل لا يعنيه أن يكون هذا الحشد البشري الموجود فوق الأرض اللبنانية شعباً واحداً موحداً له حق التطلع إلى مستقبل أفضل.
وهذه التحية لعاصم سلام الرائد بين مجموعة من المهندسين الرواد الذين حاولوا عبر الدولة و«الأقطاب» الذين رفعتهم الأقدار إلى سدة السلطة فيها، أن يعيدوا بناء ما هدمته الحرب الأهلية، بما يؤكد ويمتن الأواصر بين «الرعايا» الذين لا يقبلهم النظام كمواطنين..
وفي حين يعيش هؤلاء «الرعايا» في قلب القلق على وطنهم الصغير، يتخوفون من رياح الفتنة، طائفية ومذهبية، بينما تجتاح مناخات الحروب الأهلية العربية المنطقة جميعاً، فإن السؤال يبقى: إلى متى سنبقى رهائن هذه الطبقة السياسية التي ترى «الخارج» مسؤولاً عن «الداخل»، وتلجأ إليه فتستدعيه أو تستدرجه لكي يقرر «لنا» ما يراه.
نقلاً عن جريدة "السفير"