طلال سلمان
ضاع وقت ثمين منذ أن أنجز «الميدان» هدفه الفوري بإسقاط أنظمة الطغيان في أكثر من بلد عربي، وان كانت قد عجزت عن ضبط المسار الى التغيير الذي يطمح الى تحقيقه ببناء «النظام» الذي يحقق مطالبها المشروعة في بلادها بالحرية والعدالة والتقدم.
تفجرت الأخطاء السياسية في وجه قوى التغيير، التي لم تكن تملك برنامجاً واضحاً، وتعثرت ولادة «النظام الجديد»، واضطرت إلى التسليم بضرورات المرحلة الانتقالية... وكانت تلك فرصة ذهبية لكي تسارع «الأنظمة المحافظة»، ملكية وأميرية، بالانتقال من الدفاع الى الهجوم الوقائي، اذ تحكم مفيدة من غناها الأسطوري لشراء الوقت ومحاصرة «الميادين» حيث تفجرت الانتفاضات، «حتى لا يكون التغيير مغامرة غير مضمونة الجانب».
كان المهم بالنسبة لهذه الأنظمة تأجيل التغيير الشامل، أو تعطيله، بأي ثمن، حتى لا تنفتح أبواب المستقبل أمام سائر الشعوب المقهورة بالقمع، وبالذات في الدول ذات الموارد الهائلة التي تعطيها الأرض ويأخذها الغرب بأرخص الأسعار، ويبقى «الرعايا» في أُسر الفقر وقهر السلطان.
ولقد نجحت «الأنظمة المحافظة» في تحقيق هذه الغاية، الى حد ما، مفيدة من الارتباك العام الذي صاحب عملية انتقال السلطة في أكثر من قطر عربي في تزامن مثير، خصوصاً أن الإدارة الاميركية كانت «على الخط» ترصد التطورات وتتابع التحولات وتوزع «النصائح» بضرورة تجنب الصدام أو التعجل في الكشف عن برامج القوى القديمة التي تصدت لقيادة المرحلة الجديدة، مستفيدة من تبعثر قوى الميدان الفعلية من شباب الفكر الجديد والتيارات المنادية بالتغيير الجذري.
الشواهد على هذا السياق عديدة، مع الأخذ في الاعتبار أن بين هذه الهجمات لمصادرة المرحلة الانتقالية ما كان مبكراً جداً وعلنياً الى حد الفضيحة، كما في حالة الانتفاضة الشعبية في تونس، وبعضها الآخر كان مرتجلاً وفوضوياً بارتداداته الدموية كما في حالة الحراك الشعبي في ليبيا.
أما في مصر فقد حكم التحفظ والاسترابة طريقة التعامل مع ثورة الميدان، حتى إذا ما اطمأن أصحاب الأمر والنهي الى تسلم الإخوان المسلمين قمة السلطة اندفعوا يتوافدون على القاهرة مثقلين بوعود المساندة وعروض الاستثمار المجزية تدعيماً للعهد الجديد الذي طمأنهم الى هدوء «عاصفة التغيير» أقله في المدى المنظور، لا سيما إذا هم أنجزوا وعودهم بالدعم بالسرعة المطلوبة.
بالمقابل فإن هذه «الأنظمة المحافظة» لم تستطع أن تتقبل في البلاد التي تحكمها ارتفاع الأصوات بالاحتجاج، أو بتأييد الانتفاضات وميادينها في مختلف الأقطار التي انتصرت فيها إرادة التغيير.
بل إن هذه «الأنظمة المحافظة» قد بادرت إلى مصادرة التغيير في اليمن وشراء الوقت لمنع انتصار الثورة، فضغطت على الرئيس علي عبدالله صالح، بوسائل عديدة أهمها المال والتهديد بزلزلة الأرض تحت أقدامه، في الشمال كما في الجنوب... وهكذا اضطر الى التسليم بالثمن بعد ما نال التعويض عن الرئاسة نقداً ووعوداً بحفظ أقاربه، أبناءً وأصهاراً، ومناصريه في زمن الشدة.
ومع أن اليمن مفتوحة لتأثيرات وتدخلات من أطراف أخرى، بينها إيران، التي يتهمها «النظام الجديد ـ القديم» بمناصرة «الحوثيين»، فإن قوى الانفصال في الجنوب تجد الآن من يغذيها في أكثر من عاصمة نفطية تخاف من استقرار اليمن بما يمكنه من لعب دوره كدولة كبرى في منطقة تتحكم ببحور عديدة، بعضها يشكل الممر الإجباري للنفط العربي إلى الغرب، الاميركي أساساً، والأوروبي من بعد.
كذلك فإن هذه «الأنظمة المحافظة» لم تستطع أن تتقبل التداعيات المنطقية لأصوات الاعتراض التي ارتفعت في البحرين. احتجاجاً على بطش نظامها الملكي ونكوله بوعوده وتعهداته بالسماح بقدر مضبوط من الديموقراطية في ظل العرش... وهكذا بادرت فوراً إلى إيفاد بعض قواتها العسكرية تحت القيادة السعودية إلى المنامة لمواجهة انتفاضة شعب البحرين السلمية المطالبة بالحقوق الطبيعية للمواطنين في بلادهم. وكان متوقعاً أن تشوه الانتفاضة باستعادة تهمة ممجوجة تشكك في عروبة هذا الشعب الراقي والذي مكنته ظروفه من سبق أقرانه في منطقة الجزيرة والخليج في مجال العلم، وفي بناء حركة نقابية مميزة بتاريخها النضالي، ومن ثم في التعرف إلى الأحزاب والحركات السياسية التي كانت تقود الحراك الشعبي في المشرق (البعث وحركة القوميين العرب والشيوعي). هكذا وجهت إلى المنتفضين التهمة التي تعادل الخيانة، إذ وصموا ـ مرة أخرى- بأنهم «إيرانيون»، إن لم يكن في النسب والأصول ففي التوجه السياسي.
مرة أخرى، كرر النظام الملكي في البحرين أخطاء الماضي، متسلحاً الآن بدعم دول مجلس التعاون الخليجي، متجاهلاً النصائح الأميركية المتوالية بأن «يسمح» بقدر من الديموقراطية تتيح «لشعبه» الراقي أن يتنفس.
على أن المفاجأة تأتي الآن من الكويت. فمن غير المفهوم أن يعجز نظامها الأميري، الذي اتسم في ماضيه بقدر من الحكمة والتوازن وحسن قراءة الخريطة السياسية، عن معالجة الوضع المأزوم الراهن الذي ينذر بمخاطر تتهدد، مرة أخرى ومن الداخل الآن وليس من الخارج، هذه الإمارة الغنية، والتي سبقت الى التعرف على «الدولة» بمعناها الحديث، وأنجزت خطوات واسعة على طريق تحصينها بنوع من الديموقراطية والمشاركة الشعبية في السلطة.
ذلك أن الكويت كانت طليعية في اعتماد نوع من الحكم الدستوري. وكان مؤسس «الدولة الحديثة» فيها الشيخ عبدالله السالم الصباح على قدر من الوعي وحسن قراءة التحولات في المنطقة من حول إمارته الصغيرة والغنية... وهكذا فإنه بادر، مع جلاء القوات البريطانية وإعلان الاستقلال، الإفادة من خبرات السابقين إلى بناء الدولة، فجاء بالعديد من الخبراء في مختلف المجالات، واتخذ قراراً خطيراً: اعتماد الدستور أساساً والنظام البرلماني قاعدة لحكم الأسرة. وهكذا استدعي الخبير المصري المميز في القانون الدستوري عثمان خليل وعهد إليه بكتابة دستور لدولة رئيسها أمير من أسرة آل الصباح، لها مجلس نيابي، وحكومة تمثل أمامه لنيل ثقته ومؤسسات رقابة ومحاسبة.
كان ذلك في أوائل الستينيات (1962)، وقام مجلس نيابي فعلاً، وكانت الأحزاب السياسية، وفي الطليعة منها حركة القوميين العرب التي حظيت بتمثيل فعال في ذلك المجلس... كما كانت في البلاد حركة نقابية فعالة، لم ينظر إليها أحد على أنها تشكل خطراً على النظام.
أما في الفترة الأخيرة فقد بات المجلس النيابي مسرحاً للصراعات المفتوحة، سواء داخل الأسرة، أم بين القوى السياسية المختلفة وبين أبرزها وأعلاها صوتاً «الإسلاميون»، سلفيين وإخواناً، وثمة من يشابههم وإن بنسبة أقل بين الشيعة، مما اضطر رئيس الدولة الى توجيه ما يشبه الإنذار، موضحاً أن الكويت في خطر داهم يتهددها التطرف بالاضطراب الشديد، كياناً سياسياً قبل نظام الحكم وبعده.
بالمقابل فإن النظام السوري، الذي واجه انتفاضة شعبه بالعنف غير المحدود، يتحمل المسؤولية عن غرق هذه البلاد ذات التاريخ المضيء في النضال العربي في بحر من دماء شعبها الذي لم يتأخر عن تأدية واجبه القومي على أية جبهة عربية. ومن باب الاستذكار نشير الى موقف سوريا المميز من العدوان الثلاثي على مصر، سنة 1956، فضلاً عن مناصرة شعبها المفتوحة لشعب فلسطين في نضاله المفتوح ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948 وحتى اليوم، ومن دون أن ننسى الدور المميز لهذا الشعب في نصرة ثورة الجزائر، ثم في اندفاع طلائع من أبنائه ليساعدوا في حملة التعريب التي كان نجاحها شرطاً لتوكيد الهوية الأصيلة للجزائر التي اعتمد الاستعمار الفرنسي سياسة الفرنسة بالقوة لإخراجه من انتمائه القومي.
إن انتكاسة الانتفاضة العظيمة مفجعة.. لأنها كانت مصدر الأمل في أن تستعيد هذه الأمة وعيها بذاتها وبقدراتها وبحقها في أن تكتب التاريخ الجديد لهذه المنطقة خارقة الأهمية دولياً، سواء بموقعها أم بثرواتها الطبيعية، وأساساً بقدرات شعوبها التي خاضت معارك بطولية من اجل تحررها واستعادة هويتها الأصلية ثم انتزاع حقها بالتقدم والكرامة والاستقلال.
ويتابع العرب بقلق بالغ التخبط الذي يمارسه الحكم الجديد في مصر، والذي وصل إلى سدة السلطة بقوة الميدان، سواء في الداخل أم في السياسة الخارجية، وصولاً إلى العلاقة مع العدو الإسرائيلي، فضلاً عن الموقف المتهافت أمام شروط البنك الدولي لإقراض مصر ما يساعدها على تخطي مرحلة تخطي الانهيارات التي تسبب فيها عهد الطغيان.
ذلك أن غياب مصر عن دورها القيادي في منطقتها يتسبب في افتقاد الأمة الطريق إلى غدها... وكانت ثورة الميدان مصدر الأمل في تغيير ينهي الطغيان فعلاً ويمهد لبداية عهد جديد في مصر وقد استعادت روحها وقدرات شعبها والتفاف أمتها من حولها.
إن العرب خارج مصر يرفضون أن يصدقوا أن الوضع المتهالك القائم الآن في مصر هو حصيلة ثورة الميدان التي بهرت العالم، والتي أكدت القدرات غير المحدودة التي يملكها شباب مصر والمؤهلة لإحداث تغيير ينتشل مصر من وهدة الفساد والإذلال المتعمد لكرامتها عن طريق استغلال حاجتها إلى المساعدات الخارجية التي يستطيع شعبها أن يعوضها بجهده، في ظل حكم يعبر عن إرادته ويؤكد وحدته ويفيد من قدراته لتحقيق التقدم المطلوب..
هل من الضروري التذكير بأن هذه الوطن الكبير يفتقد - منذ غياب مصر عن دورها الطبيعي - قيادة مؤهلة تفيد من قدراته العظيمة لبناء الغد العربي الأفضل؟
ويستحيل أن تُعلق هذه الآمال على حكم مرتبك بين موجبات التحرر والتقدم نحو الغد والشعار الديني معززاً بسائر المؤشرات إلى الالتزام بفرز المواطنين بين مؤمنين وغير مؤمنين، بينما المطلوب التقدم إلى الأمام في قلب هذا العصر المذهل بأسباب بناء الحياة الجديدة فيه.
نقلًا عن جريدة "السفير"