طلال سلمان
من المطار الى «الميدان» في قلب القاهرة، فالى المطار بعد سلسلة من اللقاءات والمناقشات شارك فيها العشرات من «أهل الثورة»، داخل القاهرة وخارجها، من دون أن يغيب عنها من يمثل «الفلول»، تجلّى واضحاً أن أبواب الحديث في السياسة قد انفتحت للمواطن المصري على مصراعيها، وان عهد «ما ليش في السياسة» قد انتهى الى الأبد.
لقد اكتشف المصريون جميعاً، الرجال والنساء، والشبان والصبايا خصوصاً، أن عصرهم قد جاء، وان لهم ولهن أن تعلو أصواتهم بآرائهم وأفكارهم بوصفهم هم أهل البلاد وأصحاب الحق في أن يعيدوا بناءها بما يناسب طموحاتهم.
انتهى زمن التلقي، وانتبه كل مصري وكل مصرية إلى واجبه الذي يفرض عليه أن يقول رأيه في الدستور، حتى وان لم يكن فقيهاً في القانون، وفي الاقتصاد، وان لم يكن خبيراً في مجال الاستثمار، خصوصاً ان «معركة» التعديلات الدستورية وتردداتها على مستوى أهل القضاء ورجال القانون عموماً، قد نبّهت إلى المخاطر الكامنة في النصوص الملتبسة والى أن التزوير يمكن أن يتجلبب نصوصاً قانونية، ويمكن أن يعطب قداسة الدستور ذاته.
الأهم أن «الثورة» لما تصبح «ذكريات عن أيام عبرت وانتهى الأمر... فميدان التحرير ما زال مليئاً بالخيام، والطرق منه واليه مقفلة، وان كانت الصورة من حوله قد اختلفت، فجاءها الباعة بعربات الأطعمة والشاي والمرطبات... أما داخل الخيام فقلة من الشباب يتناوبون حراسة ما يمكن اعتباره «ربط نزاع» خلال الهدنة الإلزامية التي تتخلل المواجهات.
كانت القاهرة مذهولة نتيجة تصريحات القائد الإخواني الدكتور عصام العريان حول حق اليهود «بالعودة» إلى مصر و«استرداد أملاكهم فيها»، والتي كان صادرها عبد الناصر، وطردهم منها... وقد اختتمها بمناشدتهم «ان يعودوا الى بلادهم، فمصر أولى بهم من إسرائيل».
وبهذا التصريح النابي والمباغت تكاملت مضبطة الاتهام في «وطنية» «الإخوان».. أما النظام فقد خسر هيبته ولا يبدو متيسراً أن يستعيدها في المدى المنظور:
الشرطة فقدت اعتبارها بعدما وُظفت كطرف في المواجهات الاولى بعد تفجر «الميدان» بالثورة... ومع تكرر الاشتباكات تمكن شباب الثورة من تحييد مجاميع من رجال الشرطة، في حين أن أعداداً من الضباط الذين استخدموا القسوة مع «الشباب»، وبالذات مع الفتيات، قد تم تصنيفهم «أعداء للشعب»... وبات ممكنا أن ترى ضابطاً برتبة لواء يحاول إظهار براءته لشباب الثورة مما نسب إليه من قسوة في التعامل مع جموعهم، متعهداً بان يبتعد عن مواجهتهم في أية «مليونية» مقبلة.
بالمقابل، فان الجيش قد استعاد اعتباره الذي كان أصابه شيء من الضرر في «المرحلة الانتقالية» نتيجة ملابسات عديدة، بينها أن قيادته التي صيّرتها الضرورة قيادة سياسية للبلاد قد سلكت سلوكاً ضعيفاً ومتردداً، ولحقتها في لحظات معينة شبهة «التواطؤ» مع «الإخوان المسلمين»، ثم انتهى بها الأمر الى «عزلها» بطريقة غير لائقة وعبر خديعة مكشوفة: التكريم تمهيداً للخلع!
وفي حين يمتدح بعض صناع الرأي العام المصري القيادة الجديدة للجيش، ويشيدون بوطنيتها مستذكرين لوزير الدفاع الجديد تأكيده أن «الجيش ما زال ناصري العقيدة ويحمل تقديراً عاليا لجمال عبد الناصر، باني القدرات العسكرية الجديدة»، فإن شباب «الميدان» يأنسون لتأكيد القيادة الجديدة «حيادها»، وهم رحبوا بالبيان الذي ميّز موقف الجيش عن مواقف السلطة الإخوانية، سواء في ما يتصل بالدستور الجديد وطريقة تمريره باستفتاء شعبي مطعون في شرعيته، وفي حجم الذين وافقوا على نصوصه «الغامضة» التي اعترض عليها الكبار من أهل القانون الدستوري... فضلاً عن «مهزلة عرض دستور كهذا على جمهور فيه نسبة عالية من الأميين وأنصاف المتعلمين الذين لا يفقهون على ماذا بالتحديد يتم استفتاؤهم وأين مواقع الخلل والقيود الجديدة التي يفرضها عليهم هذا الدستور المختلف على اللجنة التأسيسية، والذي تم انسحاب عدد محترم من القانونيين وأهل الرأي منها عشية إقراره، ثم عدله الرئيس في اللحظات الأخيرة، أم بالنسبة الفعلية للموافقين عليه التي لم تتجاوز الثلث من مجموع عدد من يحق لهم المشاركة في الاستفتاء».
الدستور الجديد سيبقى لوقت طويل موضع طعن، ليس فقط لان عرضه على الاستفتاء الشعبي في بلد تبلغ الأمية فيه نسبة مرتفعة، بل كذلك لان ملابسات كثيرة رافقت إعداده... ثم أن العاصمة قالت بأكثريتها المليونية، «لا»، لهذا الدستور الذي تم «تلغيمه» ببعض المواد التي أضافها «الإخوان» لتوكيد سيطرة منطقهم والحجر على خصومهم باسم الشريعة.
الى جانب الدستور ومعه، يواجه حكم «الإخوان» رفضاً شعبياً واسعاً. وبين الطرائف أن تجمع الشعارات المرسومة على الجدران في العديد من شوارع العاصمة، بين فلول النظام القديم وبين النظام الإخواني وبين رفض حكم العسكر.
وتتبدى الشعارات الإخوانية، معززة بالشعارات المستفزة التي يرفعها «الحازميون» أي السلفيون، منفرة للمصريين الذين اشتهروا بالإيمان بغير تعصّب...
على أن هذه الشعارات ومعها السلوك اليومي، في الشارع ثم في الدوائر الرسمية، قد أسهمت في التعجيل في حسم قضية خطيرة هي موقع الأقباط وسائر المسيحيين في الحياة السياسية المصرية. ويمكن القول براحة ضمير، إن إحدى اخطر نتائج ثورة الميدان هي التوكيد المطلق لثوابت الوحدة الوطنية، وانتهاء عصر التمييز بين المصريين.
لقد انتهى زمن التعامل مع الأقباط وكأنهم «جالية أجنبية» في حين أنهم الأساس في وجود مصر، وقد أعطوها اسمها...
لقد توحّد الكل في الميدان، لكن هذه الوحدة ما تزال بحاجة إلى برنامج والى إطار سياسي جامع. وبرغم قيام «جبهة الإنقاذ الوطني» التي انضوى تحت لوائها ابرز الشخصيات والأحزاب المعارضة، إلا أن هذا الإطار لا يزال ينتظر خطة العمل، ومغادرة موقع رد الفعل على قرارات تتخذها السلطة، والتقدم في اتجاه الإمساك بالقرار وتحديد الخطوات العملية الآيلة إلى بناء مشروع السلطة البديلة، في المقبل من المعارك.
وعبر مناقشات امتدت لساعات طويلة وشارك فيها العشرات من الشباب والسيدات، بينهم الحزبيون وبينهم من يكتفون بتوصيف أنهم من «شباب الثورة»، تبدى واضحاً أن الوصول إلى هذا البرنامج السياسي للمعارضة ليس أمراً سهلاً... فالمعارضون، يجيئون من منابت فكرية مختلفة ومن تنظيمات سياسية أو شبابية غير موحدة في التوجهات السياسية، برغم اجتماعها على مخاصمة «الإخوان» والسلفيين.
وإذا ما اعتبرت نتائج التصويت في المعركة الرئاسية بجولتها الأولى التمهيدية ثم الثانية والتي انتهت بفوز الدكتور محمد مرسي، هي المرجع في تحديد شعبية هذا التيار أو ذاك، وهذه الشخصية العامة أو تلك، فان معارك «الدستورية» في تشكيلها ثم في ناتج عملها، ومن بعد في التعديلات التي أدخلت على الدستور في اللحظات الأخيرة، تكشف الثغرات التنظيمية التي وفرت فرصة الفوز لـ«الإخوان»: خصومهم مختلفون، بينما هم تقاربوا حتى كادوا يتوحدون مع «السلفيين» الذين كانوا «منافسيهم والتقليديين.
للمناسبة، لا بد من الإشارة الى أن «الأحزاب السياسية» في مصر ليس لها رصيد شعبي وازن، ثم إن من الصعب محاكمتها على قاعدة برامجها او المنطلقات النظرية. فإخوان 2012 هم بالتأكيد غير «إخوان» 1928، وغير «إخوان» ما بعد 1954، وغير «إخوان» عهد السادات، الذي «اشترى» ولاءهم بتشريع وجودهم الحزبي ووفر لهم الفرصة للمشاركة في الحياة السياسية ولو من موقع «الملحق» بالنظام. كذلك الأمر مع نظام مبارك، الذي «اعطاهم» ثمانين مقعداً في مجلس الشعب قبل الأخير، ثم ارتد عليهم بعد ذلك وحرمهم هذه «الكوتا» لاسباب غير مفهومة، وان قيل أن الدافع إليها شكوكه في حماستهم لفكرة توريث ابنه جمال.
الحزب الجديد الذي يمكن أن يكون له مستقبل سياسي في مصر هو الحزب الذي يتصدر قيادته حامدين صباحي، وهو «ناصري» التوجه... وثمة أحزاب أخرى جديدة ومعظمها وليد «الميدان» بينها «الدستور»، أما الحزب المعتق، «التجمع»، فقد أصابه اليباس تحت قيادته التي لم تتبدل على امتداد نصف قرن إلا قليلاً.
أين العرب والعروبة في ثورة مصر؟ وأين «الغرب»، اميركا اساساً، ثم سائر الدول؟ وأين «الشرق» ممثلاً بروسيا اساساً، ومن بعدها الصين؟
اميركا حاضرة في مختلف المجالات والأمكنة... ثمة أجيال من المتخرجين الذين عادوا من دراستهم في الجامعات الاميركية مبهورين بتقدمها العلمي والاقتصادي. وبالمقابل، فان العديد من القيادات العسكرية تلقوا تدريباتهم في الكليات العسكرية، وبينهم الكثير ممن كانوا قد شاركوا في دورات تدريبية في الاتحاد السوفياتي ودول معسكره الاشتراكي السابق.
ثم أن المعونات الاقتصادية الاميركية تشكل أمرا واقعاً ثقيل الوطأة، إذ لا يمكن الاستغناء عن المليار ونصف المليار دولار من المعونات، حتى وان كانت تذهب إلى غير ما أستدينت من اجله، او ان بعضها ينفق على «خبراء اميركيين»، فلا بديل لها في ظل البخل الشنيع الذي مارسته دول النفط العربي مع نظام مبارك، والبخل الأشنع الذي مارسته ولا تزال تمارسه مع الحكم الجديد، برغم كل ما بذله «الإخوان» من جهد لاسترضائها وتطمينها، ومن غير أن ننسى ان الزيارة الرسمية الأولى التي قام بها الرئيس محمد مرسي كانت للسعودية، ثم عاد فزارها مرة ثانية لحضور مؤتمر هامشي لم يكن حضوره فيه ملحوظاً.
الحديث يجري عن قطر، وليس إلا قطر: إمبراطورية زمن البؤس العربي... مع الإشارة الى ان الدوحة هي مركز التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومستقر الشيخ القرضاوي الذي حاول، ومنذ الأيام الأولى، ان يفرش عباءته على «الميدان»، من دون أن يلقى الاستجابة التي كان يتوقعها.
ولعل هذا منطقي... فسوريا غارقة في دماء أهلها، والعراق تائه عن حقائق حياته ودوره، وفلسطين استقرت في خلفية الذاكرة، وان وجد من يحاول استثارة «شوفينية» المصريين عبر الزج بأسماء بعض الفلسطينيين في بعض الاشتباكات التي وقعت وذهب بعض المواطنين ضحية لها. ثم ان «صفقة غزة» قد أثارت الريب في دور ما لـ«الإخوان» المسلمين في مصر بتزكية اميركية واضحة، إذ إن اعلان وقف إطلاق النار الذي بشرت به وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون قد تم من القاهرة، وبحضور وزير خارجية مصر كشاهد على ان ليبيا مصدرا لتهريب السلاح، بكل أنواعه، إلى مصر، والبعض منه «يتسلل» الى سيناء بذريعة غزة، وربما لهذا زاد التوجس «مما يدبر لمصر في سيناء»، وتم اتخاذ سلسلة من الاجراءات الاحترازية التي كادت تجعل من سيناء مصدراً للهموم والمخاطر الكامنة او المحتملة. ولعل الكوميديا السوداء تتجلى في الادعاء بان الفلسطينيين يريدون سيناء لتكون دولتهم العتيدة بالتواطؤ مع إسرائيل ودول العالم على مصر وأرضها.
وباختصار: فالمخاض في مصر مستمر، ولن تتوضح صورة المستقبل فيها الا بعد مواجهات ومعارك سياسية فكرية مفتوحة مع الإخوان المسلمين وقد غدوا الآن في سدة السلطة.
وبالتأكيد فان تصريحات العريان قد فضحت ما كان مستوراً من خطط الإخوان لمستقبل حكمهم، اذ يكاد هذا القطب الإخواني يجعل من إسرائيل حليفاً وصديقاً لمصر، متجاوزاً أنور السادات ذاته، ويريد استعادة اليهود الذين غادروا مصر ثم قاتلوها مرتين كإسرائيليين.
لكن ما يمكن استنتاجه من جولة قصيرة بين الآراء، ان مصر عائدة الى دورها، قريباً، ولو كره الكارهون، في مواقع السلطة فيها، او في خارجها القريب والبعيد.
نقلاً عن جريدة " السفير " .