مصر اليوم
أفترض أن نسبة لا بأس بها من المواطنين العرب في مختلف أقطارهم، مشرقاً ومغرباً، قد تسمّروا ليل أمس، أمام الفضائيات يتابعون نتائج الانتخابات في إسرائيل، ويستمعون إلى الشروحات والتعليقات حول مسار هذه «العملية الديموقراطية»، التي أريد لها أن تكون نموذجية وكاشفة لبؤس أحوال الشعوب العربية بالمقارنة مع هذه «الأقوام» التي تمّ تجميعها من مختلف جهات الأرض لإقامة دولة يهود العالم على أرض فلسطين.. العربية؟!
هي دولة العدو، نعم. لكنها تتحدى الأمة العربية جمعاء بأنها وهي العنصرية بالمشروع والنشأة والتكوين، يمكنها أن تدعي أنها تكاد تكون «الدولة الديموقراطية الوحيدة» فوق الأرض العربية.
لقد غطت بالديموقراطية عيوب التكوين العنصري، وطبيعتها العدوانية، وجرائم احتلالها أرض الشعب الفلسطيني وأراضي دول أخرى، بينها لبنان وسوريا ومصر الممنوعة من بسط سيادتها على شبه جزيرة سيناء فضلاً عن القيود المفروضة عليها في حركتها السياسية وفي اقتصادها. أما الأردن فترعاه وتحافظ على كيانه ودوره كمركز استخباري مهم وكجدار حماية عند الضرورة.
وأفترض أن المهتمين بالسياسة والمعنيين بالشأن العام من أهل الطبقة السياسية قد تابعوا هذه الانتخابات في «دولة العدو» من باب الاهتمام بما يدور من حولنا عموماً، وبالذات في الكيان الإسرائيلي، واستمعوا إلى أكثر من تحليل جاد لاتجاهات الرأي العام في إسرائيل.
وأحب أن أفترض، أيضاً، أن بعض أهل الطبقة السياسية، ولا أقول كلهم، ربما يكون قد اكتشف أنه أكثر عنصرية من الأحزاب والقوى السياسية في الكيان الإسرائيلي، وهي عنصرية بالعقيدة والتكوين.
لقد تمكن المشروع الإسرائيلي من بناء دولة مركزية قوية، وصهر أشتاتاً من اليهود استقدمهم من أربع رياح الأرض في بوتقة «دولته» موحداً في جنسيته (العنصرية) جنسياتهم المتعددة، وأقام مجتمعاً راسخ البناء.
أما نحن في هذا الوطن الصغير، لبنان، فإن الطبقة السياسية قد نجحت وإلى أقصى حد في تقسيم الموحّد وتفتيت المؤتلف، فصار مجتمعنا مجتمعات متواجهة، وصارت الطائفية والمذهبية سدوداً فاصلة بين «الرعايا» الممنوعين من أن يكونوا موطنين.
إن المناقشات الجارية منذ أسابيع طويلة حول قانون الانتخاب مهينة لكل لبناني. إنها تجتهد لنسف كل ما هو موحِّد ولكل ما هو مشترك بين اللبنانيين. وأول ما تلغيه هو «المواطن» إذ تعيده إلى «رعية» لطائفته، أي للقيادات المطهمة من ملوك الطوائف.. وباسم الديموقراطية.
من قبل، كان غلاة الطائفيين من أهل الطبقة السياسية يتباهون بأن لبنان قد اتسع لسبع عشرة طائفة، وأن نظامه الفريد قد نجح في صهر هذه الأشتات فوحّد رعاياها في بوتقة الهوية اللبنانية الجامعة.
لكن الواقع قد كشف أن هذا الكيان المقام أصلاً على قواعد طائفية هي أركان نظامه لا يقبل أن يتوحد رعاياه بالانتماء الوطني، ولا يعترف بهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
وها هي الطبقة السياسية تعيد الموضوع إلى ما هو أدنى من الطوائف، إلى المذاهب والشيع، فإذا الكاثوليكي غير الماروني وإذا الأرثوذكسي من أصل عربي (لبناني) غير الأرثوذكسي من أصل أرمني، وبطبيعة الحال فإن السني غير الشيعي والدرزي غير العلوي، وإذا ليس في لبنان «مواطنون» بل «رعايا» لطوائفهم.. وإذا الزعامات والقيادات المقرّرة في شأن التمثيل الشعبي (الديموقراطي!!) هي المرجعيات السياسية من «ملوك الطوائف».
ويجب أن نشهد لهذه الطبقة السياسية في لبنان أنها في كل تجربة انتخابية جديدة تتجاوز ذاتها، فمن كان طائفياً صار مذهبياً.. وليس أسهل من أن تتحول الطائفية عنصرية، وما أسهل ما تنمو الكراهية والأحقاد في صدور من كانوا «مواطنين» هم أبناء شعب واحد ووطن واحد ليصيروا خصوماً وأعداء يقتتلون ـ بالسلاح ـ في المعركة المجسّدة للديموقراطية: الانتخابات اللاغية للوطن الواحد ووحدة رعاياه.
إننا نهدم مشاريع دول لشعوب كانت موحدة، في حين أن عدونا الإسرائيلي يبني دولة منيعة من أشتات بشر كانوا «مواطنين» في دول أخرى، فاستقدمهم بمشروعه العنصري وأقام منهم أقوى دولة في هذه المنطقة، وجعلها قاهرة لإرادة الأمة جميعاً.
وفي لبنان الذي كان مشروع دولة لوطن صغير يُمزق الآن بأيدي قادته من أهل الطبقة السياسية ليغدو مجموعة من إمارات الطوائف والكيانات المنفصلة إلى حد العداء، لا تجمع بين أهلها وحدة الأرض ولا وحدة المصير.
وهناك أقطار عربية أخرى تمزقها الحروب الأهلية، معلنة أو مستترة، متفجرة أو هي في الطريق إلى التفجّر، الآن، لأن «الزعماء» و«القادة المخلدين» فيها لم يعرفوا كيف يحفظونها بدولة لكل مواطنيها، قبل أي حديث عن التقدم والازدهار والمنعة، فكانت النتيجة أن عرّضوها للتفكك، وعرّضوا عمرانها للتدمير، وتركوا شعوبها مزقاً من الطوائفيين المفقرين والمهجرين الباحثين عن بطاقة لجوء إلى أي بلد آخر.
هل يخجل أهل الطبقة السياسية في لبنان من هذا النموذج الإسرائيلي في التوحيد، أم تراهم يتباهون بأنهم قد نجحوا في أن يؤذوا وطنهم في وحدة شعبه، وفي حقه في دولة لكل أبنائها، فحققوا ما عجز عنه الآباء في المشروع الصهيوني ثم الأبناء في دولة يهود العالم؟!
نقلاً عن جريدة "السفير"