طلال سلمان
لم تُخفف قيادات «الإخوان المسلمين» بعد من زهوها أو انبهارها بسرعة وصولها إلى سدة السلطة في أكثر من بلد عربي، وإن ظل تسنم الرئاسة في مصر أخطرها، والهيمنة على القرار في تونس أصعبها.
ربما لهذا يتبدى الارتباك واضحاً في سلوكها... فهي لم تكن قد هيأت نفسها لمثل هذا «الإنجاز التاريخي»، وإن كانت تتطلع إليه منذ زمن بعيد: ماذا نفعل في مواجهة مشكلات الداخل، المالية منها والاقتصادية، وكلها خطير؟ وكيف نواجه المعضلة الاجتماعية، وهي متفجرة؟ وكيف نرسم سياستنا العربية وكل ما حولنا من أوضاع إما متصدع فعلاً وإما أن التصدع يتهدده؟ وهل نخاطب أهل النفط والغاز مباشرة أم نلجأ إلى «الصديق الكبير» لكي يتدخل فيحسم الأمر بإشارة منه؟ وهل هذا «الصديق الكبير» جاهز للتدخل أم أن ثمن تدخله سوف يكون ثقيلاً جداً؟
وقد زاد من الارتباك أن تنظيم «الإخوان» كان مضطراً لخوض مجموعة من المساومات مع قوى الاعتراض الشعبي الواسع على توليه مقاليد السلطة. فأطلق تعهدات ووعوداً مغرية كان يعرف انه لن يلتزم بها، لتأمين الصعود الآمن إلى القمة... وبديهي أن التملص منها سيسرع المواجهة، وفي الشارع، ما سيفرض امتحاناً لولاء القوى الأمنية خصوصاً، قد يتوسع ليشمل تلك المؤسسة المهيبة: الجيش... والتنظيم كان يفضل إرجاء مثل هذا الامتحان، ريثما يستكمل أسباب السيطرة على مراكز القرار بهدوء.
هي معضلة معقدة: كيف تستولي على مفاتيح السلطة من دون التورط في معارك سابقـة لأوانـها، وقبل أن تستكمل العـدة الضرورية لمثـل هذه المواجـهة؟ لا سيّما أن استـفزاز المؤسسات الأمنـية قد تـترتـب عليه نتائج خطيرة لا قبل للحكم المستولد قيصرياً بتحملها؟!
ثم أن للتنظيم تحالفات قديمة مع الخارج الإسلامي أبرزها مع إيران، وعلاقات مستجدة ولكن العمل لتوطيدها يجري بنشاط، أخطرها مع الولايات المتحدة الأميركية، وعلاقات مضطربة مع أطراف عربية طالما اطمأنت إلى «السلفيين» أكثر من اطمئنانها إلى «الإخوان»، فكيف العمل الآن والتحالف مع هؤلاء «السلفيين» صعب وخسائره - محلياً وعربياً ودوليا - أعظم من أرباحه، إن كانت ثمة أرباح... هذا إذا ما تم التغاضي عن الشروط القاسية التي يلوح بها السلفيون عند الحديث عن التحالف؟ كيف يمكن التوفيق بين موجبات الحكم وارتباطات التنظيم الذي نشأ معارضاً وشب على المعارضة وتورط في التحالف ولو لفترة مع نظام الطغيان، ولم يبذل جهداً جدياً لمحاورة خصومه الذين تورط في تحديهم بحيث صارت المواجهة في الشارع حتمية؟
... ولماذا لم يطور التنظيم موقفه من المسألة الاجتماعية، فإذا به يتورط - كحاكم - في موقف معادٍ للحقوق المكتسبة للعمال والفلاحين، وإذا بجـهده لأسلمة التعليم تصطدم بالتراث التاريخي للمجتمع المدني المنفتح على الأفكار والمناهج المعاصرة، فيتبدى وكأنه في عداء مـع حركـة التقـدم الإنـساني ومـع ريادة مصر في المجالات العلمية كما في مجال حقوق الإنسان؟
وماذا عن السياسة الخارجية «لإخوان المسلمين»؟ وبالتحديد: ما هو موقف «الإخوان» الفعلي من إسرائيل، واستطراداً من القضية الفلسطينية؟ هل يكفي استقبال رئيس السلطة الفلسطينية بالأحضان للتدليل على الالتزام بموجبات القضية المقدسة؟ وهل تكفي الوساطة الأميركية لوقف الحرب الإسرائيلية على غزه وقد باعت ثمارها إلى الحكم الإخواني في القاهرة، ولو على حساب الرصيد الثوري لحركة حماس؟ وأين تقع الرسالة الودية جداً إلى الرئيس الإسرائيلي في هذا السياق، وتعزيز العلاقات الأمنية مع تل أبيب؟
يعتذر «الإخوان» بأن الأوضاع العربية المضطربة لم تمكن حكمهم من إرساء علاقة جدية مع الدول العربية، برغم أن الرئيس محمد مرسي قد ذهب في أكثر من رحلة إلى السعودية، واستقبل غير مرة بعض قادة «الجزيرة» و«الخليج» الذين وعدوه بالمساعدات إذا اعتمد سياستهم ومواقفهم سواء تجاه إيران وسوريا ومعها العراق، لكن الشروط لتنفيذ الوعود كانت أقسى من أن يستطيع قبولها، هذا إذا ما سلمنا جدلاً أن النية للإنقاذ كانت صادقة عند من وعد.
فإذا ما انتقلنا إلى الضفة التونسية تبدى أن منطق «الإخوان» واحد وإن كان عند جماعة تونس أكثر مرونة... فهم حاولوا تمويه هيمنتهم على السلطة بالشراكة مع بعض قوى المعارضة التاريخية، في حين أن «إخوان» مصر قد رفضوا مبدأ الشراكة وخادعوا قوى المعارضة مفترضين أن افتقارها إلى الوحدة لن يمكنها من مواجهة الحكم بما يزعزع بنيانه ويعطل قراره. وهكذا دخلوا في مواجهة مع الشارع قد تكون أضرت بصورة المعارضة ولكنها هشمت صورة الحكم وكشفت ارتباكه وتضارب قراراته والنقص الفاضح في خبرته وتورطه في «حروب» و«معارك» عبثية، دستورية وسياسية وأمنية ذهبت بالكثير من رصيده المحدود أصلاً. من حق أي مراقب أن يسأل: أين يختلف حكم الإخوان عن حكم حسني مبارك؟
إن حرص «الحكم الجديد» على كسب ثقة الإدارة الأميركية لا يقل أبداً عن حرص سلفه، بل لعله مضطر لأن يثبت خروجه من إسلامه القديم، الذي بات «إرهاباً» إلى إسلام جديد معتدل وغير معاد، لا للولايات المتحدة ومعها الغرب عموماً، ولا لإسرائيل... ثم انه معاد - بالتكوين - للاشتراكية وحق العمال والفلاحين في المشاركة في السلطة وصولاً إلى العلمانية وسائر منتجات الاشتراكية السوفياتية.
في أي حال فإن هذا الحكم الجديد ليس ثورياً، وإن كانت ثورة الميدان هي صاحبة الفضل في توفير الفرصة لقفزه إلى السلطة، وبالتالي فهو ليس مديناً للميدان وثواره بشيء...
لقد كان «الميدان» ميدانين: الأول لقوى بلا رأس وبلا برنامج، لها مواقف متطرفة من الجيش ومن كل من عمل مع النظام القديم، من أميركا إلى دول الجزيرة والخليج التي تصمها بالرجعية، والثاني «الإخوان» ومعهم جماعات السلفيين في تحالف الضرورة. وقد انتصر «الإخوان» ومن حقهم أن يتولوا السلطة، برغم اعتراض أولئك الذين حاولوا الوصول إلى سدتها وفشلوا. يريدونها معركة؟ حسناً فلتكن المعركة! لنا السلطة، ونحن نقرر في مختلف الشؤون، في الدستور، وفي القضاء، في الانتخابات ودوائرها وسائر مستلزماتها. كذلك نحن من يقرر السياسة الخارجية، بالتحالفات والخصومات فيها. نقاتل ضد النظام السوري ثم نذهب إلى حكومة العراق التي تحرص عليه فنطلب مساعدتها. نسيء استقبال الرئيس الإيراني الذي جاءنا بغير دعوة منا ولم نكن نستطيع رفض زيارته، ثم نبدل اللهجة حتى لا تضيع علينا عروض إيران بالمساعدة أقله اقتصادياً.
وفي تونس يستنقذ الموقف الشجاع لرئيس الحكومة الإخواني حمادي الجبالي الحكم الائتـلافي الـذي «ركبه» «الإخوان»، باستقالته، لتهدئة الـشارع الغاضب نتيجة اغتيال القائد النقابي بلعـيد، ويرفـض «القائد التاريخي» راشد الغنوشي استبعاد «الإخوان» عن الوزارات السيادية، وتحتدم الأزمة السياسية، فيضطر الغنوشي إلى التراجع والقبول بحكومة أكثريتها اخوانية لكن قرارها ليس اخوانياً خالصاً...
هل هذا مجرد ذكاء سياسي، أم محاولة لإنقاذ حكم جبهوي لا يحظى بالتأييد الشعبي الكاسح، تواجهه معارضة قد تبدو غير موحدة، ولكن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية تمدها بزخم مؤثر، وتفرض التخفيف من الطابع الإخواني استرضاء للشارع الغاضب الذي لن يعود جمهوره إلى البيوت في المدى المنظور.
الخلاصة التي لا يمكن تجاهلها أن تجربة «الإخوان» في السلطة ليست مستوفية شروط النجاح... فالرغبة في الهيمنة على الدولة، بمؤسساتها المختلفة، المدنية منها والعسكرية، ومحاولة إعادة صياغة الدستور والقوانين على مقاس الحكم الاخواني لا يمكن أن تنجح في دول كانت تستظل نظاماً غير ديني، بغـض النظر عن حجم الفساد فيـه: فالفساد في الرأس، والمجـتمع هو الذي تحرك بالغضب فأسقط هذا الرأس ومنهجه المدمر.
يتصل بذلك أن «الإخوان» لا يملكون برنامجاً واضحاً يمكن اعتماده للخروج من عباءة النظام الدكتاتوري الفاسد الذي أسقطه «الميدان»: لا سياسة واضحة تلبي احتياجات الداخل، ولا منهج في السياسة الخارجية يؤكد القرار الحر في الموقف من القضايا المطروحة، وأولها فلسطين.
لا خطة لمعالجة مشكلات المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ولا تغيير في السياسة الخارجية يستجيب لمتطلبات استقلالية القرار.
وليس اللجوء إلى الميليشيا حلاً، بمعزل عن كونه من خارج ادّعاء الإيمان بالديموقراطية وبالتسليم بالصندوق حكماً في موقف الإرادة الشعبية.
والخلاصة التي تؤكدها الوقائع: أن حكم «الإخوان» غير مؤهل لأن يبني دولاً حديثة، ولا هو مؤهل لان يفتح طريق التقدم أمام المجتمعات التي أعطته الفرصة فضيعها... ومن لا يسوس الحكم يخلعه.
نقلاً عن جريدة "السفير" .