مصر اليوم
«الدولة» في إجازة مفتوحة... ومع ذلك لا تظهر ملامح القلق على وجوه اللبنانيين الذين الفوا العيش من دون «الدولة» أو «خارجها»،.. وربما لهذا عبر الجميع ـ مسؤولين ورعايا ـ عن ارتياحهم ومضوا في ما كانوا منهمكين فيه، خصوصاً ان وجود «الدولة» رمزي في حياتهم.
رئيس الجمهورية شبه معتكف، لأن الحكومة «تمردت» على رغبته في تأليف هيئة الإشراف على الانتخابات النيابية التي يعرف فخامته كما يعرف سائر المعنيين من أقطاب ورؤساء و«فعاليات» ان هذه الانتخابات لن تجري في موعدها المقرر لأسباب عملية، قبل ان تكون قانونية.
على ان الاعتكاف لن يمنع رئيس الجمهورية من السقوط في غواية قمة الدوحة... وهو سيذهب إليها وهو يعرف انه سيكون بلا دور، بل وبلا صوت أيضاً، التزاماً بسياسة «النأي بالنفس»، وإن كان قد استبقها بإعلان موقف «متطرف» بالمعايير اللبنانية، لا سيما في ظل التغييب بالأمر «القطري» لسوريا و«بيع» مقعدها في الجامعة العربية لمعارضات النظام التي ما تكاد تأتلف وتعلن عن هيئة قيادية لها حتى تختلف فصائلها متعددة الولاءات بحسب مصادر التمويل والتسليح والإرشاد والتوجيه.
ورئيس الحكومة مستقيل اعتراضاً أو احتجاجاً أو اغتناماً لفرصة قد لا تتكرر بأن يخرج من مأزق كان يتهدد موقعه السياسي بموقف قد يحوله إلى «قطب» لا يقل وزناً ودوراً عن سائر من رفعتهم العصبيات الطائفية إلى موقع الزعامة.
والمجلس النيابي في إجازة مفتوحة حتى تتوافق الطوائف المختلفة على قانون انتخابي جديد يحتاج الوصول إليه إلى سلسلة من العجائب التي تعطي زعيم كل طائفة حصته التي تمكنه من ان يصبح رئيس ـ ظل يملك حق الفيتو على أي قرار لا يتوافق مع مصالحه التي تتحول فجأة إلى مصالح الطائفة المقدسة التي لا يجوز التفريط فيها حتى لو خربت البلاد... فالطوائف هي الباقية أما الوطن فأوطان بعدد الطوائف والمذاهب، والحصة في الحكم أهم من حماية «الدولة» التي هي مغانم للأقطاب، فمن تنقص حصته يستطيع «الانفصال» بدولته حتى تعود إليه حصراً «حقوق الطائفة» فليتهمها من دون ان يلغي «دولته» تماماً بل يضعها في «الاحتياط الإستراتيجي».
وفي ظل الأوضاع العربية الراهنة حيث تتهاوى الدول أو يتهددها خطر التفكك في غمار الحروب الأهلية المفتوحة التي تتعاظم ألسنة نيرانها بعد كل قمة في «دوحة» تثمير الحروب من أجل دور خطير لدولة صغيرة بمداخيل خرافية، يتعاظم حرص «الدول» على لبنان ونظامه الفريد ولو بلا دولته.
وتجارب لبنان في هذا المجال حافلة... وربما لو أحصيت سنوات غياب أو تغييب الدولة لاستنقاذ «النظام» لتبين انها أكثر عدداً وأغنى إنجازاً من سنوات حضور الدولة بمؤسساتها الشرعية مكتملة.
بل إن بناء هذه الشرعية غالباً ما يتطلب مؤتمرات دولية وقمماً عربية، وهدنة إسرائيلية، أفضت في معظم الحالات إلى التسليم بحكم انتقالي إلى حكم انتقالي آخر، مع مراعاة الشكل الدستوري: يأتي النواب فينتخبون الرئيس المنتخب فعلاً ثم يمنحون الثقة للحكومة التي ما كان ممكناً تشكيلها لولا الثقة (دولية وعربية)،
لم ينتخب أي رئيس للجمهورية بإرادة محلية، ولم تشكل حكومة من دون «نصائح» عربية تستبطن تأييداً دولياً،.. بل ان «الدول» كان لها رأي وازن في قرارات تعيين المؤهلين للمواقع ـ المفاتيح، أمنياً، خوفاً من ان يلتبس الأمر على أهل الحكم أو القيادات السياسية.
ربما لهذا استقال رئيس الحكومة في توقيت محدد، مستنداً إلى إشارات وإيحاءات وربما رسائل واضحة المضمون، وكذلك حماية لحق العودة إلى الموقع الممتاز الذي أوصلته إليه أخطاء سابقيه في القراءة.
فالاستقالة قد تكون أوسع الأبواب للعودة إلى دست الحكم. والخروج الآمن قد يفتح الصندوق السحري، ويتحول الرئيس الخارج بالإحراج إلى بطل عائد بقوة الشارع الذي كان مغيباً فاستحضرته العصبيات المنذرة بالتفجر والمصالح المهددة بالتضرر... والعكس صحيح أيضاً، فكم من رئيس أخطأ في قراءة اللحظة وتوازنات القوى فخرج ولم يعد.
ولأن سوريا غارقة في دمائها، ومصر مغيبة بصراعات سلطتها الاخوانية مع «الشارع»، ومجلس التعاون الخليجي مشغول في حربه ضد إيران، والعراق مثقل بانقساماته التي تهدد بانفراط الدولة، وإيران تقاتل على جبهات عدة في وقت واحد، فإسرائيل تواصل استئصالها لمشروع الدولة الفلسطينية، خصوصاً وقد جاءها الرئيس الأميركي الأسمر تائباً يطلب الصفح ويعترف لها انها «الممثل الشرعي الوحيد» للولايات المتحدة الأميركية في مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي يخرج دول العرب من الجغرافيا بعدما أخرجها حكامهم من التاريخ.
لبنان بلا دولة: هذا ليس خبراً جديداً يستحق عناوين الصفحات الأولى.
يكفي رئيس يشعر بالإحباط الذي لا تعويض له إلا بتمديد الولاية،
وتكفي حكومة مستقيلة يحاول رئيسها العودة إلى السلطة من دونها،
ويكفي مجلس نيابي معطل يفرك أعضاؤه أكفهم فرحاً بحصولهم على جائزة تمديد الولاية لسنتين، بغير ان يجهدوا أنفسهم في طلب هذه المكافأة غير المبررة.
ان وقت الشعوب اللبنانية أثمن بكثير من ان يضيع في مثل هذه المباذل التي لو كان للبنان دولة لهدمتها. أليست نعمة ألا يكون لك دولة عادية برئيس طبيعي وحكومة كيفما اتفق ومجلس نيابي تقليدي وأجهزة أمنية تعمل في خدمة الدول ولا تجعل من ذاتها «دول ظل» لزعامات الطوائف والمذاهب و الأعراق!
... ويبقى هامش لكلمات حميمة تتوجه بها «السفير» إلى قرائها:
غداً، الثلاثاء، تدخل «السفير» عامها الأربعين، إذ ان عددها الأول قد صدر يوم الثلاثاء في السادس والعشرين من آذار 1974.
وكنا نتمنى، بطبيعة الحال، ان يكون يوم احتفال بالعيد الذي تطلب الوصول إليه مخاطر هائلة، بينها محاولات لتدمير البيت، ونسف المطابع، ومحاولة اغتيال رئيس تحريرها، فضلاً عن اعتداءات ومضايقات هائلة، أخطرها منع وصول «السفير» إلى قرائها في أنحاء عدة من هذا اللبنان الغني بتنوعه... «لكن الظروف لا تسمح بمثل هذا الترف».
على ان ذلك جميعاً لا يمنع الصحيفة التي لم يستطع الاجتياح الإسرائيلي على لبنان في صيف 1982 وقف صدورها، من ان تتوجه بالتهنئة مرفقة بالشكر لقرائها الذين حموا وجودها صوتاً للذين لا صوت لهم وجريدة للبنان في الوطن العربي وجريدة للوطن العربي في لبنان.
وكل عام وأنتم بخير.