طلال سلمان
إن لبنان في خطر داهم. هذه حقيقة مكتوبة بطوفان الدماء السورية الذي ينذر بتجاوز الحدود التي لم تكن في أي يوم حاجزاً مانعاً للتأثر والتأثير بين هذه «الدول» التي رُسمت في غفلة من أهلها، ومن فوق رؤوسهم جميعاً.
لقد تحولت «القلعة» التي كان يعتد النظام في سوريا بأنه قد جعلها منيعة إلى ساحة مفتوحة لحرب مديدة يصعب حصرها في محيط مصدّع البنيان أصلاً ومهددة دوله بمخاطر التقسيم على أسس عرقية وطائفية ومذهبية وحتى عشائرية حيث تسود قبيلة نافذة أو قبائل يجمعها التحالف على اقتناص واحدة من غنائم الحرب المفتوحة نتائجها على الاحتمالات جميعاً.
هل يشك أحد في أن الحرب في سوريا وعليها قد غدت «مدوّلة» وأن صيغة التوافق على مستقبلها، إذا ما أمكن الوصول إليها، دولياً، لن تقتصر على الكيان السوري وحده بل ستتأثر بها دول الجوار العربي جميعاً، العراق والأردن ولبنان بطبيعة الحال، مع حفظ حصة ما لتركيا، مع محاولة شطب أو تحجيم الحصة الإيرانية... هذا إذا نجحت «الخطة» التي يروّج لها الآن، ويقال إنها موضع دراسة في واشنطن، وربما في عواصم أخرى بعيدة.
وإذا كان يستحيل على أية حكومة أن توقف ـ لوحدها ـ تنفيذ مثل هذه الخطة التي تستعيد «أمجاد» سايكس ـ بيكو، فلا أقل من أن نستعد لمخاطرها بحكومة جامعة، مؤهلة لمواجهة المخاطر التي تلوح في الأفق.
إن الإجماع الذي حظي به الرئيس المكلف، نيابياً، والحرارة الشعبية التي استقبلت ترشيحه ورأت فيه مخرجاً لائقاً للقوى السياسية التي أخذتها الخلافات والمناكفات والكيديات بعيداً جداً، أي إلى ما يؤذي البلاد في سلامتها العامة، بل ويهدد وحدة الكيان السياسي، في هذه اللحظة الحرجة التي يُعاد فيها الحديث عن تقسيم ما قسمته معاهدة سايكس ـ بيكو، وتدعيم التنفيذ الإسرائيلي لوعد بلفور على الأرض الفلسطينية وعلى حساب شعبها.
إنها حكومة قد تكون قصيرة العمر ولكن مهماتها من الخطورة بحيث أن نجاحها قد يؤسس لمرحلة من الوفاق الوطني الحقيقي الذي يحتاجه لبنان، بدولته وشعبه، لمواجهة المخاطر التي تتجاوز حياته السياسية وطبقة الانتفاع من الكوارث والمصائب الوطنية، بما فيها اللغط بالتقسيم، أو تثبيت التقسيم الواقع عملياً والجاري تمويهه بالتصريحات والبيانات المطمئنة بينما ما يجري على الأرض يناقض بل ويفضح مؤدى الكلام التطميني.
ويحب اللبنانيون أن يفترضوا أن الحماسة السعودية لهذه الحكومة التي جاء رئيسها على جناح مبادرة تحمل توقيع الملك وولي عهده هي فرصة للمساعدة على إخراجهم من نفق الانقسام، ودفعهم إلى حماية وطنهم الصغير من تداعيات الأزمة الدموية التي تعصف بسوريا فتهدم مدنها ذات التاريخ المضيء، وتشرّد شعبها الأبي الذي طالما قدّم دماءه رخيصة في سبيل نصرة القضايا العربية في المشرق كما في المغرب، وفي فلسطين أساساً.
لم ترشح الرياض أياً ممن تولوا رئاسة الحكومة من قبل فتصرفوا كطرف، بل هي اختارت ابن البيت العريق الذي عُرف باعتداله، والذي حرمته المناكفات والحسابات الضيقة من النيابة، ثم أجازتها له تودداً لأهل بيروت وتعبئة لهم في «معسكر الضد»، أكثر مما كانت اعترافاً بفضل هذا البيت الذي رُسم فيه علم دولة الاستقلال وحمل توقيع القلة المشاركة في تحدي الانتداب الفرنسي وعسكره.
إن الرئيس المكلف أمام التحدي: فإن هو شكّل حكومة طرف واحد، أو حكومة اللا أحد، كان كمن يتسبب في تعقيد الأزمة الخطيرة والمنذرة بالتفاقم إلى حد تهديد البلاد في وحدتها، إذ سيمتنع عليه إجراء الانتخابات واستيلاد أمل جديد بمستقبل للأجيال التي نشأت في مناخات الحرب الأهلية فهاجرت أو هي عجزت عن الهجرة فبقيت مكرهة متمسكة بأملها في أن تكون لها ـ ذات يوم ـ دولة لكل مواطنيها، بنظام لا يخيرهم مع كل انتخابات نيابية أو رئاسية بانقسام دموي أو التوقيع على تفاهمات يعدها «الخارج» ويشرف على تنفيذها من موقع الوصي.
إن التحدي يمكن أن ينقلب إلى فرصة إذا ما أصغى الرئيس المكلف إلى ضميره الوطني، فتعالى على الانقسام الذي يُراد تثبيته والتعامل معه وكأنه قدر، مندفعاً في مغامرة الخطوة الأولى على طريق إعادة توطيد الوحدة الوطنية، وبالتالي السلام الأهلي.
وبالتأكيد فإن بين الدوافع التي حدت بالسعودية إلى الخروج عن تقاليدها شديدة التحفظ والاندفاع إلى تزكية تمام سلام لرئاسة الحكومة العتيدة، علناً وببرقيتين ملكيتين بدلاً من واحدة، الحرص على إنجاح الجهد من أجل حماية لبنان من تداعيات الزلزال السوري التي تتوالى، مع التنبيه إلى أننا ما زلنا في المقدمات، والآتي أعظم خطورة على الكيان جميعاً بالرئاسات فيه والحكومات والنيابات وسائر أهل الطبقة السياسية التي تهتم بمصالحها أكثر مما تهتم بمصير البلاد وشعبها ودولتها المصدعة بالخلافات التي تستبطن الأغراض والمصالح التي أقلها «وطني» بينما معظمها يخص الخارج بعيداً عن بلادنا البلا داخل!
نقلاً عن جريدة " السفير "