مصر اليوم
تتمدد نيران الفتنة في الأرض العربية.
تفجّرت البلاد العربية مشرقاً ومغرباً بالانتفاضات الشعبية من دون تخطيط مسبق، وقيادات معروفة، وأحزاب لها وجودها المؤثر.
تبدّت الانتفاضات بلا رأس وبلا برنامج، أشبه بهبّات يقودها الغضب المبطن بالمرارة وخيبة الأمل. افتقدت التحصين الضروري الذي يعصمها من الخطأ، والأخطر: من الانحراف، ومن الانجرار خلف الشعار الأكثر تطرفاً.
... ولأن حركات الإسلام السياسي كانت الأعرق تنظيماً والأغنى بالإمكانات، والأمكر، مالكة الفتوى بتحريم الحلال وتحليل الحرام، فقد قفزت ـ بالتحايل أو بالتواطؤ والمخادعة ـ إلى مركز القيادة لتبدأ تاريخاً جديداً من الصراع تحت العنوان الديني. وبقصد أو من دون قصد، قلبت الحركات الإسلامية من موقعها في السلطة الآن جدول أعمال الحركة الوطنية، في كل قطر وصلت إلى الحكم فيه. صارت العروبة وهي الوطنية العدو الأول، وثبتت إسرائيل في موقع الصديق، وصارت الولايات المتحدة الأميركية هي الراعي.
ولأن شهوة الانتقام تتحكّم بهذه التنظيمات الإسلامية، والإخوان تحديداً، فقد خاصمت كل قوى التغيير الجذري، واشتبكت مع المنادين والمناضلين والعاملين لحماية المجتمع المدني، وكان بديهياً أن ينتشر مناخ الفتنة، خصوصاً وقد واجهت بالتشهير والاستبعاد والإدانة المسبقة القوى والأحزاب والهيئات المدنية، وصولاً إلى الاصطدام بالأقباط في مصر، مثلاً، متسببة في نشر مناخ الفتنة.. والأخطر أنها أعادت الاعتبار إلى نظام الطغيان.
.. ولأن بطل «الهلال الشيعي» ومن معه كانوا يغذون مناخ الفتنة في المشرق تحديداً مستنفرين المذهبية، فضلاً عن الطائفية، فقد أخذ المناخ المسموم يسري في المشرق العربي، مستفيداً من تراث أنظمة الطغيان في تدمير الحركات القومية والوطنية، وغالباً من داخلها.
وبعد تفجّر سوريا نتيجة قصور نظامها عن مواكبة التطور، وتمسكه بالسلطة المطلقة، واستهانته بإرادة التغيير التي حرّكت الجماهير الغاضبة التي تمت مواجهتها بالقمع، فقد أمكن لقوى الإسلام السياسي، في الداخل والخارج، أن تسعى لقيادة هذا الغضب بعد توجيهه باتجاه «الطائفة» الأخرى.
... وها هي مطالب التغيير والإصلاح في العراق واستكمال المهمة الوطنية الأولى في التحرير الكامل وتوحيد البلاد وشعبها بعد دهر الطغيان الطويل الذي وفر للاحتلال الأميركي «مبرراته» وغطاه وصوره ضمانة للديموقراطية والوحدة... ها هي هذه المطالب تواجه بالقسوة والعناد وتعمق الانقسام الطائفي والمذهبي والعرقي، وتبرر للأكراد أن يغذوا السير نحو الانفصال بإقليمهم «دولة»، في حين تكاد دولة العراق تندثر تحت ركام الفتن وعجز الحكم عن كسب ثقة الشعب «موحداً».
وطبيعي أن تجتاح موجة التعصب المشرق جميعاً، وأن ترتفع نغمة تقسيم الكيانات القائمة إلى ما يشبه الكانتونات الطائفية والمذهبية، وصولاً إلى لبنان الذي أنهكه الانقسام الذي كان له دائماً من يرعاه من خارجه.
كانت العروبة هي الجامعة بوصفها الوطنية وإرادة التقدم وراية التغيير، حاضنة «الأقليات» كمواطنين، هم بعض الشعب، ليسوا دخلاء عليه ولا طارئين، بل هم من صلب تكوين أوطانهم، وهم أبناؤها الشرعيون وحقوقهم بوصفهم مواطنين أصلاء.
إن الفتنة تهدد أقطار المشرق جميعاً، وليس أكثر من النافخين في نار الشقاق واستعادة الصفحات المظلمة من تاريخ هذه المنطقة لتجديد «الفتنة الكبرى»... وليست السلطة أكثر من عنوان خادع، فالفتنة تخدم الأجنبي أساساً، وإسرائيل هي عنوانه، وتخدم العاملين لعودة «الاستعمار» ونفقاته على الشعوب، كما دائماً، وهذه المرة من دون الحاجة إلى الجيوش والقواعد...
ومؤسف أن دول النفط والغاز تلعب دوراً حاسماً في تغذية نار الفتنة، وتوفر على «الخارج» النفقات إذ تتكفل بتسليح التنظيمات الإسلامية، إخوانية وسلفية، وبتمويلها، وبرعايتها عربياً ودولياً.
تصوروا لو أن الأموال التي تدفع من أجل إشعار الفتن التي تدمر دول المشرق خاصة، ومعها مصر وتونس، دفعت من أجل نهضتها وتقدمها، ولا نقول من أجل تحرير فلسطين وفك الارتهان لصندوق النقد أو البنك الدولي، إذن لكان الوضع قد اختلف تماماً.
مع التذكير بأن بعض هذه الأموال قد دفعت من قبل، دعماً لأنظمة الطغيان وليس لبناء الدول الشقيقة، وها هي الآن تدفع لتهديمها بالفتنة.
وأولى ضحايا الفتنة هي العروبة بوصفها الهوية الجامعة والطريق إلى الغد الأفضل ولهذا تجتمع عليها سيوف الطائفيين والمذهبيين والكيانيين جميعاً ومعهم إسرائيل والهيمنة الأميركية.
نقلاً عن جريدة "الأيام"