طلال سلمان
ما أبعد اليوم عن البارحة، وما أشد اختلاف الأحوال الآن عن تلك التي استولدها تحرير الأرض وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي عنها بإرادة المقاومة ودماء مجاهديها، في مثل هذه الأيام من العام ألفين.
المقارنة مفجعة، سواء على الصعيد المحلي أم على الصعيد العربي، وبالذات في ما يتصل بالعدو الإسرائيلي الذي اضطر يومها إلى سحب عسكره وأسطول آلياته خلال الظلام، تاركاً طابور العملاء الذين التحقوا به، فقاتلوا أهلهم، لمصيرهم الأسود الذي اختاروه لأنفسهم على حساب كرامة وطنهم وسلامة شعبهم.
لقد أسقط أهل النظام العربي، بأكثريتهم الساحقة، ملامح العدو عن إسرائيل، فصالحها بعضهم علناً وصالحها آخرون سراً، وقالت أكثريتهم: «لن نظل نحارب عدواً لا نقدر على مواجهته إلى الأبد... ودولنا أولى بأن نهتم ببنائها والتقدم بها للحاق بالعصر، بعدما خسرنا زماناً طويلاً وأموالاً هائلة للإنفاق على احتمالات حرب ميؤوس من ربحها في مواجهة عدو لا يُقهَر».
.. وبالطبع فإن الاندفاع إلى مصالحة العدو لم يوفر الاستقرار المنشود والرخاء الموعود للبلاد التي تحكمها الأنظمة التي أخرجت نفسها من دائرة الحرب التي يفرضها العدو الإسرائيلي على الأمة منذ خمس وستين سنة، بل ومن قبل ذلك، وفي فترة التمهيد لإقامة كيانه على أرض فلسطين بالتحالف مع دول الاستعمار القديم بعنوان بريطانيا.
كذلك فإن تلك الأنظمة التي فرّطت بالأرض الوطنية وبدماء آلاف آلاف الشهداء، لم تبنِ دولاً قادرة، ولا هي وفّرت فرصة الحياة الكريمة لأهلها، بل تسبّبت في تدمير المجتمعات بالفساد الذي استشرى حتى التهم الكرامة الوطنية، وأفقدت جيوشها «قضيتها» فصارت طوابير من الموظفين العسكريين تستخدم لإرهاب الشعوب وحراسة «حدود» الاحتلال الإسرائيلي في الأرض الوطنية، وتقمع أية ظاهرة من ظواهر الاندفاع إلى المقاومة طلباً لتحرير الإرادة مع الأرض الوطنية بتدمير أسطورة العدو الذي لا يُقهر، والذي ثبت أنه يُقهر بالفعل ويُجبر على الجلاء بلا شروط.
لقد بذلت هذه الأنظمة العاجزة أمام عدوها، المستقوية على «رعاياها»، الجهد الحثيث لتدمير إرادة المقاومة، والإفساد الممنهج للقوى الجديدة في المجتمعات ودفعها إلى اليأس من أوطانها المحكومة بقوى قفزت إلى السلطة بالمصادفة فلا هي تحترم إرادة الشعب ولا هي معنية بتمكينه من التقدم، ولا هي تحمي كرامته من العوز، فضلاً عن إذلاله في مواجهة الإرادة الأجنبية، وإسرائيل ضمنها، بل هي المستفيد الأعظم من هذا الواقع.
... وحين تفجرت أنظمة العجز بانتفاضة «الميدان»، استبشر المواطن العربي بإمكان التغيير واستعادة حقوقه في وطنه وكرامته الإنسانية، واستكمال معركة تحرير الإرادة الوطنية من أجل بناء غده الأفضل.
لكن المفجع أن انتفاضة الميدان قد صودرت بالقوى التي ترفع الشعار الإسلامي والتي لا تختلف في جوهر موقفها السياسي عن الأنظمة التي خُلعت... فهي تتوجه، مثلها إلى واشنطن، وهي تقف مثلها مستجدية قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهي تظهر حرصاً أعظم على تطمين العدو الإسرائيلي إلى أنها تحترم اتفاقات الإذعان معه.
وهذا يؤدي، بطبيعة الحال، إلى تصادم الأنظمة الجديدة ـ القديمة مع القوى الحية العاملة للتغيير الجذري واستعادة الكرامة الوطنية في مجتمعاتها التي قُهرت طويلاً.
[ [ [
في هذه الأيام التي تظللها ذكرى النصر بإجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن الأرض اللبنانية، يغرق اللبنانيون في مواجعهم الناجمة عن تردي الطبقة السياسية وانشغالها بامتيازاتها ومنافعها، متوسلة دائماً سلاح الطائفية والمذهبية مع وعيها بأن ذلك يأخذ إلى الفتنة ويضيّع النصر الوطني الباهر الذي كُتب بدماء المجاهدين، وأعطى لبنان مكانة ممتازة في محيطه العربي، وسمعة دولية ممتازة.
المجد للشهداء الذين أعطونا شرف الحياة في أرض مطهّرة من الاحتلال الإسرائيلي، وإن كانوا قد عجزوا عن «تطهير» الطبقة السياسية من أمراضها قاتلة الوطنية ووحدة المجتمع وأسباب القوة التي هزمت العدو الإسرائيلي.. الجبار!
نقلاً عن جريدة "السفير" .