طلال سليمان
يصعب القفز من فوق الهموم اللبنانية الثقيلة، وأخطرها هاجس الفتنة السنية الشيعية التي تنفخ جهات عديدة في جمرها (حتى لا ننسى «جبهة» عرسال ـ الهرمل..) الحديث عن التجربة الديموقراطية في إيران التي «فاجأت» العالم، مرة أخرى، مدللة على أن الدهاء السياسي الذي تتميز به القيادة الإيرانية يتجاوز تقدير خصومها وأعدائها، خصوصاً أن إسرائيل من بينهم قد نشرت جواً حربياً عشية الانتخابات الإيرانية.
والحقيقة أنه لم يسبق في «العالم الثالث» أن شغلت دولة منه وأثّرت بسياساتها ومواقفها المغايرة للسائد، الغرب والشرق، العرب والإسرائيليين على حد سواء، فذهب المحللون والخبراء، الاستراتيجيون منهم، والمتخصصون في قراءة «السجاد العجمي» مذاهب شتى، سرعان ما ظهر خطلها أو النقص فيها، أو غلبة الموقف أو الرغبة أو الغرض على التحليل الدقيق.. حتى لقد تبدت «إيران الخمينية» وكأنها دولة من غير هذا العالم.
ومن المفارقات أن قيادة الثورة في هذه الدولة «العاصية» والتي تعرضت لعقوبات غير مسبوقة في تاريخ الصراعات الدولية، بعد حرب ضروس شنها عليها ـ باسم القادسية ـ الرئيس العراقي السابق صدام حسين امتدت لثماني سنوات من القتل الجماعي والتدمير المنهجي لمصادر قوتها ومواردها الطبيعية وقواتها العسكرية، قد صمدت لذلك كله، بل هي تمكّنت من أن تصيِّر من إيران دولة إقليمية كبرى، تلعب دوراً دولياً بارزاً، وتشغل العالم بوجودها المؤثر في مختلف جهاته، من أدنى الشرق إلى أقصى الغرب.
كثيراً ما قيل إن «قيادة العمامة» فيها قد جعلتها دولة متطرفة، ليفاجأ أصحاب الشأن بأن «التطرف» سياسة مرسومة ولها وظيفة وليس مغامرة أو مقامرة غير محسوبة النتائج.
كذلك فلقد نسب إليها أنها تقود «حرباً مذهبية شرسة»، وزعم البعض أنها تجدد «الفتنة» التي لها موقعها النافر في التاريخ الإسلامي، وقد حرّكها صدام حسين واستثمرها وألزم دول الخليج العربي بدفع تكاليفها فلما تمنعت قام بمغامرته المدمرة فغزا الكويت واحتلها ليواجه حرباً عالمية مهّدت الطريق لخسارة العراق جميعاً، و«إعدامه» بأسلوب استفزازي من شأنه أن يحوّل «الخطأ السياسي» إلى فتنة طائفية.
ولكن سرعان ما أثبتت الوقائع أن إيران الثورة الإسلامية استطاعت أن تخترق الحصار المذهبي وأن تقيم علاقات تعاون، بعضها استثنائي، مع الدول «السنية» الكبرى، وإن هي قد «ميّزت» في تعاملها مع المجتمعات الشيعية ولأسباب سياسية مؤكدة وليس من باب التعويض عن «مظلومية الشيعة»... فالسياسة كانت تملي المواقف دائماً، وإن كانت أوضاع البيئات الشيعية قد شجعت إيران على الإفادة من أخطاء تعامل الحكام معها وتهميشها، لا سيما في أقطار الجزيرة والخليج.
وفي ما خص قضية فلسطين فمن الإنصاف القول إن قيادة الثورة الإيرانية، بشخص الإمام الخميني، قد تنبهت منذ اللحظة الأولى إلى الموقع المميز لهذه القضية في الوجدان العربي خاصة والإسلامي عامة، فرفعت شعارها الذي كان قد تخلى عنه أو هرب من ميدانه معظم القادة العرب بجيوشهم الجرارة التي سرعان ما تمّ توجيه أقواها (العراقي) عكس التيار والمنطق والواجب القومي، فدُفع إلى محاربة إيران، بدلاً من التوجه نحو فلسطين لمحاربة العدو الإسرائيلي.
وبهذا تكون الأنظمة العربية قد وفرت لإيران فرصة الظهور بمظهر الحريص على الحقوق العربية، كما على موقع فلسطين في الوجدان العربي والإسلامي، أكثر من أولئك الذين هربوا من ميدانها إلى الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف كما في مختلف أنحاء المباركة فلسطين.
في أي حال، يمكن التسجيل أن معظم القيادات العربية التي كانت تطلق صيحات الحرب ضد «النظام الفارسي» ثم حوّلتها «ضد المجوس» قبل أن تستقر على استنفار السنة ضد الشيعة، قد بادرت إلى تهنئة الشيخ حسن روحاني وتمنت أن يكون انتخابه بمثابة فتح صفحة جديدة في العلاقات العربية (وبالذات في الجزيرة والخليج) مع إيران الثورة الإسلامية.
ولو تمّ ذلك، على صعوبته، لأمكن التفاؤل بالتلاقي على ما ينفع العرب والإيرانيين، ويحمي مصالحهم الوطنية، ويعزز قدراتهم في مواجهة الأعداء المشتركين والذين كانوا أعظم المستفيدين، وأولهم إسرائيل، من هذا الصراع المؤذي لطرفيه، العربي والإيراني.
وليس تميّز إسرائيل بموقف عدائي من فوز روحاني، الذي رحب به العالم كله، إلا بمثابة توكيد لاستمرار الصراع مع إيران، ليس نصرة «للشيعة» فيها، وليس نفاقاً «للسنة»، بل بسبب التخوّف من احتمال التلاقي العربي الإيراني على أرض فلسطين.
نقلاً عن "السفير"