مصر اليوم
تتعرض العروبة، فكرة وعقيدة وهوية، لحملة شرسة تصورها بدعة مستوردة، تارة، وترى فيها طوراً تزويراً للهوية الإسلامية لهذه المنطقة التي لا يستطيع الإسلاميون إنكار أنها في الأصل «عربية» وإن كانت أكثرية العرب من المسلمين، لكن للمؤمنين بالمسيحية واليهودية وحتى للأقليات المعدودة من المنتمين إلى عقائد أو مذاهب سابقة على الأديان السماوية (الأزدية مثلاً) مكانهم ومكانتهم في المجتمعات العربية.
ولقد تبلورت فكرة العروبة عبر مقاومة الجهود الاستعمارية خلال عصور طويلة من المنازعات والمواجهات بين «الأقوى» من الدول الأجنبية التي تقاسمت الأرض العربية، وقد توزعها أمراء وقادة من المماليك بعد انهيار الخلافة العباسية التي كانت ـ نظرياً ـ تمثل امتداداً للصيغة الإسلامية للحكم، بعدما بات الإسلام مصدر السلطة.
وهكذا فقد كانت العروبة مشروع توحيد الأمة، أما الإسلام السياسي، بنسخه المتطرفة إلى حد تدمير الذات، فقد تجاوز بخطره حد تدمير فكرة الأمة بهويتها العربية إلى تدمير مكوّناتها، فضلاً عن أنه حمّل الدين الحنيف من أخطاء التصنيم والتفسير المغرض ما لا يطيق.
وليس من المبالغة القول إن النسخ المتعددة والمتعارضة والمشوّهة والمشبوهة لتنظيمات الإسلام السياسي، بأصولياته وسلفياته وعدائيته لتقدم المجتمعات واندفاعاته المرتجلة إلى اتهامها بالكفر، تتهددها بالتدمير، لا سيما أنه ينسب لنفسه دور المرجعية النهائية، ليس للدين فقط، بل لكل ما يتصل بالقيم والمبادئ والسلوك الإنساني في الحياة وبعد الموت... وقبل ذلك كله وبعده: السياسة!
إن أولى النتائج وأخطرها لهذه الممارسات التي تتزايد حدة وعنفاً يوماً بعد يوم تتجلى في تفسخ المجتمعات الوطنية والقومية بعدما ضربت تنظيمات الإسلام السياسي، إخوانية وسلفية، لحمة الشعب الواحد باستخدام تفسيرات هجينة للقيم الدينية التي تحض على الوحدة في إطار القيم والمصالح وسلامة الوطن الذي يكون لأبنائه جميعاً أو لا يكون أبداً.
من أين تجيء بدعة المفاضلة بين الدين والوطن، بين وحدة المجتمع على قاعدة الأخوة والشراكة في المصير وبين تقسيمه إلى مؤمنين وكفرة، وإلى مطهرين وأنجاس، مما يلغيهم كمواطنين أصحاب حق مقدس في بلدانهم التي حفظوا هويتها وسلامتها في عصور القهر الاستعماري؟
الأمة بأبنائها كافة، والوطن بأهله، والشعب بوحدته. وتقسيم الشعب بحسب أديانه وطوائفه، وعلى قاعدة أن الأكثر تعصباً وتطرفاً هو الأعلى درجة في الإسلام، هرطقة سرعان ما يمكن تحويلها إلى سبب لتفجير حرب أهلية مفتوحة بين المسلمين أنفسهم، خصوصاً أن في الإسلام مذاهب وشيعاً عدة، وكذلك إلى مدخل لاضطهاد أتباع الديانات الأخرى التي لم تشكل خطراً على الدين الحنيف في أي يوم، مما يدفعهم إلى الهجرة، ويغري قوى الاستعمار الأجنبي بالتدخل بذريعة حماية الأقليات.
لولا العروبة التي بلورتها استعادة الوعي بالهوية القومية لما أعيد الاعتبار إلى الدين الإسلامي، الذي كانت السلطنة العثمانية قد شوّهت مفاهيمه وأساءت إلى قيمه.
فمع التخلي عن الخلافة كمرجعية عليا للسلطة في الدولة الإسلامية، انفرط عقد المسلمين والعرب، خصوصا أن الولايات غدت «دويلات متخاصمة» في ظل «خليفة» لا يملك ولا يحكم ولكنه يغطي بلقبه السامي ووهجه المستمد من التمثل بمؤسسة الخلافة في فجر الإسلام، شرعية السلطة القائمة بقوة الأمر الواقع.
حاولت السلطنة العثمانية تتريك جميع «رعاياها»، وبالذات العرب منهم، بأكثريتهم الإسلامية، في حين راعت «هويات» المسيحيين واليهود تجنباً لاستفزاز الغرب المسيحي. صيّرت كل عربي مسلم عثمانياً أو تركياً من الدرجة الثانية، وتعاملت معهم باحتقار.
انتهت الحرب بهزيمة الأتراك (والألمان)، وجاء إلى المنطقة العربية مستعمران جديدان بخطط معدة سلفاً لتقاسمها، مع اقتطاع فلسطين لتكون أرض المشروع الإسرائيلي مستقبلاً. (معاهدة سايكس ـ بيكو، ثم وعد بلفور).
خرج العرب من استعمار إسلامي الشعار، إلى استعمار جديد غربي الهوية لم يتعامل معهم باعتبارهم أمة لها هوية عربية واحدة، ويجمعها الإسلام، بل توزع أقطارهم التي لم يكن لها حدود معروفة (خاصة في بلاد الشام) كغنائم حرب... ولقد حاول العرب أن يحفظوا هويتهم بالرغم من توزيعهم على «دول» من دون اعتبار للتاريخ وللجغرافيا أو للمصالح المشتركة.
في كل هذه المراحل وفي ما أعقبها من مواجهة مع القوى الاستعمارية الوافدة، لم يكن للإسلام السياسي دور يذكر. كان النضال وطنياً مع طموحات إلى التوحد عربياً، لا سيما بعدما انتبه العرب إلى خطورة المشروع الإسرائيلي المعد والمحضّر له سياسياً وعسكرياً واقتصادياً للاستيلاء على فلسطين.
ومن سخريات القدر أن تركيا كوفئت لاستمالتها إلى صف الحلفاء، عشية الحرب العالمية الثانية، فمُنحت بعض الأرض السورية (لواء اسكندرون)، وهُجر كل من حاول المقاومة أو الاعتراض إلى ما تبقى من سوريا، بعد اقتطاع الأردن (وفلسطين وبعض لبنان ولواء الموصل) من خريطتها الطبيعية.
ذلك حديث في الماضي، فماذا عن الحاضر؟
لا شك بأن حركات الإسلام السياسي كان لها وجودها ـ الرمزي غالباً ـ في مختلف البلاد العربية، مشرقاً ومغرباً، وهي كثيراً ما اصطدمت ببعض الأنظمة والأحزاب القائلة بالقومية العربية والمؤمنة بمصير واحد للعرب في مختلف ديارهم، لا سيما بعدما زرعت إسرائيل في أرض فلسطين ووفر لها الغرب (والغفلة العربية) أن تكون أقوى من الدول العربية جميعاً.
والعروبة هوية للأرض وناسها، ترتكز إلى الإسلام، بوصفه دين الأكثرية الساحقة، ولكنها تجمع إليها المؤمنين بأديان أخرى على قاعدة وحدة المجتمع ووحدة أهدافه في التقدم والديموقراطية والعدل.
وعلى امتداد تاريخ المواجهات مع الاحتلال الأجنبي، كانت العروبة هي الهوية الجامعة لأبناء هذه الأرض، وكانت راية جهادهم من أجل الحرية والاستقلال الوطني.
ومع أن الأنظمة التي حكمت باسم العروبة وتحت شعاراتها، لا سيما في سوريا ثم في مصر، في عهد عبد الناصر، والعراق، وفي ليبيا مع بدايات القذافي، لم تقدم النموذج الأفضل للدولة الديموقراطية ولم تنجز من أسباب التقدم بقدر ما تعهدت، ولكنها بالتأكيد قد حمت وحدة المجتمع وأضافت قوة إلى مشروع الدولة ولكنها أخفقت في بناء المؤسسات الديموقراطية وظلت السلطة في أيدي الأجهزة الأمنية والجيش عموماً، ما تسبب في إشاعة مناخ من القمع.
وها ان الإسلام السياسي الذي يتباهى هذه الأيام بانتصاره على العروبة في أكثر من موقع، مصر، تونس، ليبيا، فضلاً عن حربه المفتوحة في سوريا، يقدم أوراق اعتماده إلى الإدارة الأميركية مؤكداً التزامه بكل ما كان «العهد البائد» قد التزم به، ومطمئناً العدو الإسرائيلي إلى أنه سيحافظ على الاتفاقات المعقودة معه.
والنتيجة الأولية لوصول الإسلام السياسي إلى السلطة في أكثر من بلد عربي تتمثل في انتشار مناخ الحرب الأهلية في طول الوطن العربي وعرضه. فالإسلام السياسي ليس الهوية القومية لهذه الأرض ولا يمكن أن تكون، برغم أن الأكثرية الساحقة من أهلها هم من المسلمين... لكنهم حتى إذا ما توحدوا بأكثريتهم في الدين إلا أنهم في السياسة شعوب تتوزع على قارات مختلفة، ولا يجمعها جامع إلا الدين الحنيف الذي لا يمكن اتخاذه أساساً للأوطان وبالتالي لقيام الدول.
وإذا كان ثمة تزوير فاضح في العلاقة بين الأنظمة التي حكمت بشعارات العروبة وبين شعوبها، فالمطلوب إسقاط التزوير وأنظمته وليس إسقاط العروبة وتطييف السياسة بما يقسم الشعب الواحد ويفتح الباب لحروب أهلية لا تنتهي.
نقلاً عن جريدة "السفير"