طلال سلمان
يتبدّى مشهد نقل السلطة من الشيخ حمد بن خليفة، أمير دولة قطر، إلى نجله تميم، في ظروف غامضة، «أجمل من أن يكون حقيقياً».
لقد أنهى أمير الدولة الصغرى خرافية الثروة، حمد بن خليفة آل ثاني، فترة حكمه الصاخبة والحافلة بالقرارات المثيرة، بطريقة مباغتة ستظل موضع تساؤلات وتخمينات وتقديرات لفترة طويلة: لقد تنازل لنجله الرابع تميم، بعدما أحلّه، لأسباب غير معروفة محل أشقائه الأكبر، ولياً لعهده.
وقد زاد من غموض هذه الخطوة التي جاءت ـ أقله بتوقيتها ـ من خارج التوقع، وإن كانت «التسريبات» متعددة المصادر قد «بشّرت» بها: أنها تأتي في لحظة سياسية حرجة تشهد فيها المنطقة العربية أحداثاً غير مسبوقة، تتهدد بعض دولها في وجودها، وبعضا آخر في أنظمتها، وسط مناخ ينذر بحرب أهلية مفتوحة.
محاولات التفسير عديدة، تبدأ من «الحالة الصحية» للأمير، ولا تنتهي بالحديث عن قرار أميركي بضرورة التغيير.
على أن مختلف «المصادر» تجمع على أن الأمير سيصحب معه في رحلة «الخروج» شريكه والناطق باسمه ورجل المهمات الخاصة ـ بما فيها المخادعات والمؤامرات وصفقات شراء الحكّام والعقارات في قلب العواصم الكبرى ـ الشيخ حمد بن جاسم...
وهذا منطقي إذا ما تذكرنا أن حمد بن جاسم كان شريكاً لحمد بن خليفة في التواطؤ على أبيه «الأمير» خليفة وخلعه ـ أثناء وجوده في الخارج ـ ليرقى سدة الحكم...
ولقد حاول الأمير المخلوع ترتيب العودة إلى سدة السلطة، مستعيناً ببعض أفراد العائلة وبعض المناصرين، وبينهم عسكريون، إلا إن «مضيفه»، الشيخ زايد بن سلطان، نصحه بالتخلي عن مشروع المذبحة هذا... قبل أن تنجح وساطات «نادي حكّام الخليج» في مصالحة الأمير مع أبيه... نقداً وبالذهب الأبيض.
طبعاً لن تنفي الروايات عن أسباب الاعتزال ما تردد عن الدور الأميركي في حسم الأمور. وسيظل كثير من الأسئلة معلقاً، ومنها:
هل انتهى دور هذا الرجل الذي تولى بكفاءة نادرة (!!) إدارة صدام مع السعودية حول منطقة «العيديد»، نقطة التواصل البرية الوحيدة مع أبو ظبي، بحيث حوّلها إلى «أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط»؟!
وهل أنجز دوره في كسر المحرّم وإقامة علاقات «ودية» مع العدو الإسرائيلي، وقدّم له «مكتباً تمثيلياً» في عاصمته الدوحة، ليكون الطليعة الخليجية في الاعتراف بالعدو وإعطائه مساحة للحركة الحرة في تلك المنطقة المذهبة التي تفضل المكتوم والمخبوء تحت العباءة على المعلن جهراً.
لقد كان بين ذرائعه، آنذاك، أنه حاول مواجهة الضغوط السعودية بوهج الثورة الإيرانية، إلا إن طهران لم تكن مستعدة لأن تحارب مملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض من أجله... فرئس وفداً عظيماً إلى بغداد لطلب النجدة من صدام حسين، لكن «الرئيس المفرد» للعراق لم يجد الذريعة مقنعة للدخول في حرب بين أسرتين مالكتين، وهابيتين، مرجعيتهما واحدة في واشنطن.
... وهكذا قدّم «العيديد» لتكون «أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط»، ومعها «مكتب التمثيل التجاري» ـ أي السفارة بمركز الاستخبارات فيها ـ هدية للعدو الإسرائيلي، ولم يخسر السعودية، ولا اهتز موقعه في دوائر القرار العربية، بل لقد تحوّل إلى «مركز الدائرة» في الوساطات والمصالحات والتسويات عربياً وإسلامياً، ومركز جذب القمم والمؤتمرات الدولية، سياسية وثقافية وعلمية، وحائز جائزة تنظيم المونديال، وإن بشروط... وأخيراً وليس آخراً: المضيف الاستثنائي لجامعة الدول العربية والذي يملي المقررات فيها وعليها وعلى دولها منفردة ومجتمعة.
بل إن أمير الدولة الصغرى أسطورية الثروة صيّره «الفراغ» مرجعية عربية ذات أبعاد دولية!!: ذلك أن تفكك الصف العربي وتفجر الدول العربية ذات الأهلية للقيادة بالانتفاضات الشعبية التي صادر معظمها «الإسلام السياسي» جعلاها تنشغل بهمومها الثقيلة ومحاولة الهيمنة على السلطة بغير شريك...
وهكذا نصب الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني نفسه «قائداً للأمة»، له حق الرأي (وربما الإمرة) في مشارق الأرض ومغاربها، باعتباره بطل ثورة التغيير وإنهاء الاستبداد من ليبيا، إلى تونس فمصر، وصولاً إلى اليمن، مع التركيز على سوريا، التي جمعته مع رئيسها علاقة عائلية حميمة، فصارا «ثنائياً متميزاً»... بل إنه جعل من دمشق محطة ثابتة في كل تحركاته، حتى أنه قد ابتنى في بعض ضواحيها، وغير بعيد عن ميسلون ـ الرمز، قصراً منيفاً، عززه بقصر ثان، توكيداً لعمق العلاقة الأخوية»، التي سرعان ما انقلبت إلى جفاء فإلى عداء بحيث بات حمد الأمير وشريكه حمد الشيخ في قيادة أركان «الثورة السورية» على حكم الرئيس بشار الأسد وقد صار في نظرهما، فجأة، الطاغية، خلعه واجب، ولو ذهبت سوريا إلى التقسيم أو إلى الجحيم، لا فرق!
لسوف يمضي وقت قبل أن تعرف «العامة» أسرار هذا الزهد الذي دفع الشيخ حمد بن خليفة إلى التخلي عن الحكم: هل هو المرض، كما تردد، أم انه قرار من صاحب القرار في واشنطن بأنه قد تحوّل من «صديق مفيد وغير مكلف» إلى «عبء» على السياسة الأميركية في هذه المنطقة التي بات قرارها خارجها..؟
لكن ما هو مؤكد أن ما بعد حمد بن خليفة (وشريكه ووكيله ولسانه حمد بن جاسم) سيكون مختلفاً بالتأكيد عمّا شهدناه فبهرنا أو آلمنا خلال عهده الميمون، بمدفعيته الثقيلة ممثلة بثروته الخرافية من الهواء الذي يتحول إلى ذهب أبيض مؤهل لشراء الموقع والنفوذ وأحياناً القرار في العديد من الدول والجهات...
أما قناة «الجزيرة» التي كادت تصير مركز التوجيه ومغسلة العقول وصائغة شعارات عصر الردة فلقد شكلت، بحق، قفزة نوعية في الإعلام العربي، ببرامجها المستحدثة والتي تأخذ الكثير مما هو معتمد في القنوات البريطانية والأميركية العريقة... لكنها خرقت المحظور فأعطت الهواء للعدو الإسرائيلي، وابتذلت الحوار السياسي بتحويله إلى معارك هوائية، وحرّضت على الفتنة في أكثر من بلد عربي، وروّجت للأكثر تطرفاً من فصائل «الإسلام السياسي».
وبالتأكيد لم يكن توقيت استيلادها مصادفة، بل هو جاء مترافقاً مع قرار تحويل «العيديد» إلى أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، ومع افتتاح مكتب التمثيل الإسرائيلي في الدوحة.
ومعروفة تلك الطرفة القائلة إن قطر دولة محمولة على جناح قناة «الجزيرة»...
الخلاصة أن الفراغ في موقع القيادة العربية وسقوط الدول ذات الأهلية والجدارة بتصدّر الصفوف في بناء دول المستقبل العربي الأفضل بإرادة مواطنيها كما بجهدهم وليس بأنظمة القهر... كل ذلك قد وسّع المساحة أمام الشيخ حمد (ووكيله حمد الثاني) ليتصدّر موقع الأمر والنهي والتصدي لاتخاذ قرارات تمس المستقبل العربي جميعاً.
ومبروك لتميم هذا الإرث الاستثنائي الذي جاء عن طريق أبيه ـ بعد استبعاد إخوته الثلاثة، ربما بناء لمشورة الوالدة الشيخة موزة ـ والذي قد يجعله، هو الآخر، أمير الفراغ المذهّب.
نقلاً عن جريدة " السفير"