طلال سلمان
في عصر الحروب الأهلية العربية المنظمة والهادفة إلى تدمير الدول وتشطير الأوطان، تصبح حماية لبنان مهمة شبه مستحيلة. فنظامه الطوائفي يختزن أسباب الفتنة. أما الطبقة السياسية فيه فتتكوّن بأكثريتها من ثمار هذه الفتنة ومن المستفيدين من إدامتها، مطمئنة إلى أن «الدول» حريصة على «الصيغة الفريدة» المؤهلة لإبقاء هذا الوطن الصغير على الحافة: لا هو يتوحد تماماً في «دولته» ولا هو ينهار إلى حد التمزق حتى لو «تشطّر» إلى كانتونات مؤتلفة في خلافاتها العميقة!
لا دولة بل دول وإقطاعيات طوائفية تختلف وتأتلف على قاعدة مصالحها المباشرة، مطمئنة إلى أن النظام يمنع ـ بالأمر ـ قيام «الدولة» وتحصين مؤسساتها، المدنية منها والعسكرية ولا سيما الجيش الذي كادت الطبقة السياسية تحوله إلى قوة فصل بين العصبيات الطائفية والمذهبية... أما قوى الأمن الداخلي فقد تمّ الإجهاز عليها منذ زمن غير بعيد، وأُخرجت من ميدان عملها الطبيعي لتتحول إلى حراسة أهل الطبقة السياسية من «جمهور ناخبيهم» وسائر شرور الديموقراطية.
فأما بيروت، العاصمة ـ الأميرة، فقد تم تشطيرها وإقامة خطوط فصل بين القلب والصدر، بين أحيائها التي باتت «دوائر» طائفية ومذهبية يمتنع على أهلها التوحد إلا في ذكريات الماضي وهموم المستقبل في «الدولة» التي باتت عبئاً على «سكانها» الممنوعين من أن يكونوا مواطنين.
وأما طرابلس، قلعة الوحدة الوطنية والعروبة، فقد أهملت بقصد مقصود، حتى صارت أشبه بقرية متورمة في حجمها، مقطعة أوصالها، معزولة عن محيطها الطبيعي أي الشمال كله من بشري إلى الضنية ومن المنية إلى زغرتا بالسرطان الطائفي (والمذهبي).
وأما البقاع، بغربه وقلبه وشماله، فمتروك للريح، يهرب أهله من الإهمال إلى أبعد المهاجر في أميركا اللاتينية وبعض أفريقيا وكندا قلوبهم في دمشق لكن خوفهم من الحريق الذي يكاد يلتهمها يمتص خوفهم عليها، خصوصاً وهي تزيد من انقساماتهم بعدما ضربها الانقسام، فإذا الهرمل تجد نفسها في مواجهة عرسال، وإذا مجدل عنجر وجب جنين في مواجهة مشغرة، وإذا صغبين مغيّبة تتمنى أن ينساها الجميع، وإذا زحلة «عروس» ضاعت عن أهلها أو أضاعوها..
يبقى جبل لبنان الذي قسمته الطبقة السياسية جبالاً، يسكن الوهم بأنه قد حمى نفسه بالانعزال في جغرافية «المتصرفية»، وأن «الدول» ستحميه اليوم وغداً كما حمته بالأمس، و«ما هم جونيه من هدير البحر»!
لا دولة. إذن فلكل طائفة «دولتها»، بل يمكن أن يكون لكل مذهب كانتونه في قلب هذه الجغرافيا السياسية المستحدثة والتي يتزايد عدد «الرعاة الدوليين» كلما تعاظم الشرخ بين دول الطوائف وكانتونات المذاهب.
الألقاب مفخمة. لكن لا دولة. رئيس يشكو من ثقل أوقات الفراغ عليه، وحكومة عالقة بين الثلاث ثمانات والثلث الضامن (هل لاحظت الترف؟!).. أما مجلس النواب فقد أكسب نفسه مدة إضافية متخطياً العقبات الدستورية والخلافات السياسية والصراعات الطائفية والاحتدام المذهبي.. وليذهب الناخبون بأصواتهم إلى الجحيم، فهو لا يحتاجها مطلقاً، وبغض النظر عن القانون، في بلد شعاره «مرحبا قانون!».
لا دولة والحرب في سوريا تمد ألسنة نيرانها إلى جارها، العاجز عن احتضانها كما احتضنته خلال دهر حربه الأهلية التي لما تنتهِ!
لا دولة والجيش يتيم، يكلف بمهمات أصحاب الفخامة والدولة والمعالي والسعادة جميعاً: يسخر للفصل بين المتقاتلين من دون إيذاء مشاعرهم الرقيقة، بينما يمنع من تأمين الوطن الصغير وتحصينه لمنع امتداد ألسنة النار السورية إلى داخله، وأخذه أسيراً للفتنة العمياء..
لا دولة في الوطن الصغير الذي يعاقبه «إخوته» الأغنياء من عرب الجزيرة والخليج على عقوقه وخروجه على مقررات «الدوحة» بتدمير الوطن العربي جميعاً، فيمنعون رعاياهم من القدوم إلى بيوتهم الصيفية فيه ويعيدون رعاياه إليه لكي تهنأ بلادهم الغنية بسلامهم الأميركي.
لا دولة... ولكن لا فتنة، برغم أنوف المحرضين عليها والمستفيدين منها من هواة تدمير المدن التي كانت وستبقى قلاعاً للوطنية والعروبة والمقاومة، ولو كره المحرضون والمستفيدون من احتراق الأخوة أو إحراقهم، لا فرق.
نقلاً عن "السفير"