طلال سلمان
سقط «حكم الإخوان» كمشروع للتغيير في الوطن العربي، بغض النظر عن النتائج المباشرة للحراك الشعبي الذي ملأ الميادين والساحات في مختلف أرجاء مصر بشعار «إرحل» الموجه إلى الرئيس محمد مرسي وحزبه وحلفائه من «الإسلاميين»، إخواناً وسلفيين وبين بين.
بالمعنى العملي فإن هذا الحكم قد سقط منذ الأسبوع الأول لتسلم الرئيس الإخواني سدة السلطة، وحين افترض أن فوزه، ولو بنسبة تناهز النصف من أصوات الناخبين، يعني انه «الممثل الشرعي والوحيد» لعموم المصريين، بمن فيهم الذين منحوا أصواتهم لغيره أو امتنعوا عن الإدلاء بها اعتراضاً على محاصرتهم بخيار واحد بين أمرين كلاهما بائس.
ومع أن تنظيم «الإخوان» في تونس قد تصرف بطريقة أعقل حين حاول أن يغطي تقدمه نحو السلطة بصيغة جبهوية، متحاشياً أن يبدو وكأنه «الممثل الشرعي والوحيد» لشعب تونس، فقد تعرض لهزة خطيرة مع اغتيال المناضل المعارض شكري بلعيد، فاستقال رئيس الحكومة الإخواني مطالباً بتوسيع «الائتلاف الحاكم» والتخفيف من الصبغة الإخوانية في السلطة. على أن الأزمة ما تزال مفتوحة، وهي تتجاوز مواقع السلطة إلى الاقتصاد والاجتماع خصوصاً أن المجتمع التونسي قد ارتضى «العلمانية» منهجاً، وهو يعيشها منذ أكثر من نصف قرن من دون أي انتقاص في إيمانه بالإسلام ديناً.
أما ليبيا، التي يكاد شعبها يختنق بالفوضى الدموية التي ترافق الصراع على السلطة بين جماعات مستجدة على العمل السياسي، بينها «إسلاميون» و«علمانيون» لا يعرفهم أحد، وكانوا يعيشون في الغرب، وقد استدعاهم الشعب إلى الحكم من «منافي» بعيدة، فإنها تبدو مهددة بالتمزق متجاوزاً صيغة الحكم الاتحادي التي كان يعتمدها النظام الملكي (3 ولايات، الشرق بعاصمته بنغازي، والغرب بعاصمته طرابلس، والجنوب بعاصمته سبها) فضلاً عن الدولة المركزية لمعمر القذافي بعاصمتها المستحدثة سرت.
أما سوريا، التي تعيش حالة قريبة من الحرب الأهلية، فإن تاريخ الإسلام السياسي، ممثلاً بحركة «الإخوان المسلمين»، ليس ناصعاً فيها وهو مثقل بالدموية منذ زمن بعيد... أما «الفصائل الإسلامية» الأخرى فتبدو وكأنها قادمة من الجاهلية، في عنفها الدموي وجهلها بمبادئ الدين الحنيف، وشراستها في رفض «العمل السياسي» واعتمادها منطق «كل من ليس معي فهو كافر، وكل كافر إلى القتل».
في كل هذه التجارب كان الشعار المركزي للمعارضات متعددة التوجه: الديموقراطية والحكم المدني، أي غير المصفح بالدين، والتأكيد على هوية البلاد الأصلية.
هي الوطنية، إذن، والوطنية هي العروبة.
لقد شملت الاعتراضات على تفرد «الإخوان» بالسلطة، فضلاً عن الرفض المطلق لديكتاتورية حكم الحزب الواحد، ورفض الطروحات التي تستغل الشعار الديني «لتكفير» المعارضين، أي الأكثرية الساحقة من المصريين (والتونسيين والليبيين والسوريين الخ.) خضوع هذا الحكم للهيمنة الأميركية، وتهافته أمام الاحتلال الإسرائيلي، وتخليه عن قضية الأمة، أي فلسطين... وبالاستطراد «حماسته» لأشتات المعارضات السورية، لا سيما ذات الشعار الإسلامي التي ثبت أن بعضها يقارب «القاعدة» بل قد يتفوق عليها في دمويته، والأخطر في إنكاره للهوية الوطنية للشعب السوري، أي لعروبته... وهي هي الهوية الجامعة للعرب جميعاً، المسلمين بأكثريتهم الساحقة، ومعهم إخوتهم في الوطن من الأقباط وسائر المسيحيين، وكل الذين يؤمنون برسالات سماوية أخرى.
من هنا فلم تكن عودة «الخطاب الناصري» إلى الحياة السياسية، في مصر خصوصاً، مجرد مصادفة أو تعبير عن الحماسة، أو للرد على المنطق الإخواني المعادي للصح في ذلك الخطاب، أي التعبير عن روح الأمة وعن المقاصد التي تنشد الشعوب العربية إنجازها، في مختلف أقطارها، وهي التخلص من الهيمنة الأجنبية، ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وإعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسس سليمة تحفظ كرامة الشعوب العربية من إذلال مؤسسات التمويل الأجنبي (بقرارها الأميركي).
والحقيقة التي تؤكدها الوقائع الثابتة، سياسياً وميدانياً، أن «العدو الأصلي» لهذه الحرب الشرسة التي تقودها التنظيمات ذات الشعار الإسلامي هو: العروبة، باعتبارها الهوية الجامعة للشعوب العربية ومطامحها إلى التحرر والتقدم والتوحد.
يعرف اللبنانيون هذه الحقيقة جيداً، ولطالما دفعوا ثمن الخطأ في تقدير قياداتهم السياسية. فعندما تتراجع «العروبة» كهوية وكقاعدة فكرية لسياسات الأنظمة عموماً، والنظام القائم في سوريا خصوصاً، وفي مصر على وجه التأكيد، يسود مناخ الحرب الأهلية في الوطن الصغير والجميل، إذ يجد أهله من يدفعهم بالخوف أو بالشعور بفائض القوة نتيجة التحريض الأجنبي، إلى الانقسام الطوائفي، ويخرجون من صيغة التوافق الوطني إلى مجاهل الاقتتال على السلطة في نظام أقيم على قاعدة طائفية ولا ضمانة لسلوكه إلا بسيادة مناخ «عروبي» في المحيط. ربما لهذا كانت الضمانة للوحدة الوطنية في لبنان تتعزز في حكم وطني ذي أفق قومي في سوريا أو في يقظة مصر واندفاعها لتحمل مسؤولياتها القومية في مختلف أرجاء الوطن العربي.
المعادلة بسيطة: إذا ما وصل الاتجاه الفئوي ممثلاً بالتطرف تحت الشعار الديني إلى السلطة فمن الطبيعي أن تجمع المخاوف كل المتضررين من هيمنة طرف واحد، بغض النظر عن شعاره... وطالما أن الأكثرية الساحقة من المواطنين، في مختلف أرجاء الوطن العربي، وهي مسلمة بطبيعة الحال ولكنها لا تقبل التطرف ولا هي ترتضي بالفئوية، فمن المؤكد أن الحكم بالشعار الديني سيواجه مأزقاً حقيقياً: هو مرفوض شعبياً ولن يقبل من جانبه بالديموقراطية لأنها تمثل أسرع طريق لسقوطه.
كل ذلك سوف يزين له انه يستطيع أن يحكم دولة بحجم مصر وبتاريخ شعبها النضالي ووعيه، وفي زمن سقوط أنظمة الحزب الواحد والحاكم الفرد.. وهذا معناه انه يعيش خارج حقائق التاريخ، وانه سيلجأ إلى القمع، وهو أقصر الطرق إلى السقوط، كائنة ما كانت الكلفة.
على أن ثمة معضلة معقدة تواجه معارضي أنظمة الحزب الواحد أو تلك الأنظمة التي تموه حزبها الحاكم بتجميع بعض الشخصيات أو التنظيمات الصغرى والتي باتت خارج دائرة التأثير في «جبهة وطنية» لكي يمكنها الادّعاء أن «الحكم جبهوي»، وليس تسلطاً من حزب واحد لم يصل إلى السلطة في انتخابات طبيعية وفي ظل مناخ ديموقراطي.
تتمثل المعضلة في أن هذه المعارضة، بل المعارضات، غير موحدة في برنامجها وفي خطط عملها، لا هي تتلاقى بتنظيماتها السياسية أو الشبابية أو الجمعيات والهيئات من خلف قيادة موحدة، ولا هي أنجزت برنامجها المشترك الذي يتوافق عليه الجميع كخطة عمل هدفها إسقاط سلطة الهيمنة بالشعار الإسلامي من أجل إقامة حكم وطني تحرري جبهوي في تنظيمه، ديموقراطي في ممارساته الداخلية كإعلان نيات عن نهجه في الحكم، إذا ما نجح في استقطاب الأكثرية الشعبية الحاسمة.
لا تكفي الشعارات مستدرة الحماسة. لا يكفي القول «لا للطائفية» «لا لهيمنة الرأي الواحد أو التنظيم الواحد أو القائد الواحد». لا يكفي أن يكون الجميع ضد الحكم بالشعار الديني. لا يكفي أن يعلن الجميع رفضهم لدكتاتورية العسكر وإيمانهم بالديموقراطية. بل لا بد من قيادة مؤهلة وقادرة تجمع الأكفاء والأنصع تاريخاً والأكثر استعداداً للتضحية، على قاعدة برنامج عمل وطني تحرري يوجه إلى المصريين بطبيعة الحال، ولكن توجهاته تمس وجدان سائر العرب في مختلف أقطارهم مشرقاً ومغرباً. فلا يقبل من مصر أن تكتفي بذاتها، بل أن انعزالها سيجهض ثورتها.
ولم تكن مصر في الخمسينيات وحين سلم العرب جميعاً بقيادتها أعظم غنى منها الآن، أو أقوى عسكرياً في ظل قوات الاحتلال البريطاني. لكن إرادة التحرير أوصلت زخمها إلى مختلف أرجاء الوطن العربي التي كانت تفتقد القيادة المؤهلة، كما هي حالها الآن، فاستجابت إلى النداء، وتحركت دعماً لمصر وثورتها.
وكل العرب ينظرون الآن إلى مصر وينتظرونها.
نقلاً عن جريدة "السفير"