مصر اليوم
يعيش اللبنانيون في قلب دوامة القلق بل الخوف، بلا حكم قادر، وبلا الحد الأدنى من التفاهم المانع لانهيار المؤسسات جميعاً ودفع البلاد إلى الفراغ في قلب الصراعات المتجددة بعد نجاح الثورة الثانية في مصر وأخطرها أقربها: تفاقم «الحرب» في سوريا وعليها وانعكاساتها ـ مذهبياً وفي ما يتجاوز السياسة ـ على الوضع الهش والقابل لانهيارات سريعة ومتوالية تهدد سلامة هذا الوطن الصغير في دولته وأهله.
وتظهر التحركات والاتصالات العربية أساساً، والدولية من بعد، أن ثمة مشروعاً انقلابياً يحضّر، أو أنه قيد الإنجاز حالياً، من شأنه أن يبدل ويغير ـ بالحذف أو بالإضافة ـ في خريطة التحالفات والمخاصمات بين أطراف الصراع الذي كان سياسياً ويراد دفعه الآن في اتجاه الاشتباك الطائفي بل المذهبي.
أبرز هذه التحركات اللافتة هو خروج السعودية على تقاليدها في العمل من خلف ستار، وبصمت، وتقدمها إلى واجهة المسرح، في لبنان، بذريعة مواجهة «إيران الشيعية» ثم في الاندفاع إلى تأييد الثورة الثانية في «مصر السنية»، بسرعة لافتة، والاندفاع في مواجهة النظام السوري إلى حد إبداء الاستعداد لتزويد معارضاته بالسلاح الثقيل، وأوله الصواريخ المضادة للطائرات، ومن ثم وضع اليد على قيادة هذه المعارضات «بالبدوي» من شمر عاصي عويجان الجربا الآتي من الحسكة، والتي لها ثقلها في المملكة المذهبة إضافة إلى العراق..
أما في لبنان فإن السعودية، وخلافاً لأسلوبها التقليدي، وصمتها الأبيض، قد تقدمت إلى واجهة المسرح ليس فقط عبر تسميتها المرشح لتشكيل الحكومة الجديدة، بل وعبر العمل لإعادة نسج شبكة تحالفات سياسية جديدة تمهد لتبديل جدي في المشهد السياسي الراهن... أما الهدف فهو: إخراج «حزب الله» من الحكومة العتيدة. أما التبرير فهو الرد على تحالفه الثابت مع النظام السوري إلى حد المشاركة في القتال معه، ونيابة عنه، حسب بعض «العارفين»، كما جرى في فك الحصار عن مدينة «القصير» بكل التداعيات العسكرية والسياسية لهذا «التدخل» الذي ترى فيه المملكة «انقلاباً في موازين القوى».
وأما عن احتضانها المعارضة السورية المسلحة الذي وصل مع الأمير سعود الفيصل إلى حد التعهد بتزويدها بالأسلحة الثقيلة بما فيها الصواريخ، فهذا أمر آخر..
ولقد توالت مجموعة من المواقف والتطورات داخل المملكة وخارجها تؤشر على تبدل في أسلوب تعامل السعودية مع ما يجري في المنطقة ومن حولها من أحداث: بداية مع «الثورة المصرية»، وذلك بالالتفاف عليها عبر التأييد العلني، مقدمة استعدادها للدعم كبديل من المال القطري... مع التذكير بأن الملك عبد الله بن عبد العزيز قد قطع رحلة استجمامه في المغرب وعاد فوراً إلى الرياض لكي يقرر الخطوات المطلوب اتخاذها وبسرعة الضوء.
وبمعزل عن أسباب عزل الأمير خالد بن سلطان من موقعه وقد جاء مباغتاً وفيه شيء من الخروج على «التقاليد العائلية»، فإن تصدر أخيه غير الشقيق الأمير بندر بن سلطان وتصرفه على أنه شريك في القرار (لا سيما في ما خص لبنان) وليس مجرد منفذ، قد تبدى جلياً عبر أزمة الحكومة اللبنانية: سقوطها المفاجئ، ثم التكليف من خارج التوقع، والذي كان أول من بشر به وليد جنبلاط.
في هذا السياق يمكن إدراج المفاجأة الأخرى التي تمثلت بإعلان الشيخ حمد بن خليفة التخلي عن دست الحكم في قطر لنجله تميم (الرابع في الترتيب بين أبنائه)، وتسليمه الراية، بينما اختفى الشيخ حمد بن جاسم عن المسرح تماماً ولغطت الشائعات حول مستقبله..
(بهذا يختفي من هندس اتفاق الدوحة.. فكيف يبقى الاتفاق، إذاً؟).
أما في لبنان فقد اتخذ ــ من خارج التوقع ــ القرار بالتخلص من ظاهرة الشيخ الأسير في بعض ضواحي صيدا.. وتم تنفيذ القرار بتكلفة عالية، ربما لأنه كان يحتاج إلى إعداد أفضل وإلى تضامن أقوى مع الجيش..
وفجأة نزل إلى الشارع من يريد تعويض الشيخ الذي «اختفى» أو «أخفي»، وقيل إنه ذهب إلى أقرانه في سوريا... لكن سرعان ما تقدم من يريد وراثته، ومن موقع غالباً ما اتسم بقدر من الرصانة، فإذا بالتحرك الجديد يتوسع ما بين الجنوب والشمال والبقاع، رافعاً شعارات مذهبية أعنف بقائلها من تلك التي كان يطلقها الأسير بفجاجة وإن صاحبها قدر من الكاريكاتور.
من الضروري التذكير بأن التعطيل المقصود غيّب المجلس النيابي عن الانعقاد، وبالتالي عن إقرار ما كان ينبغي إقراره قبل التمديد له بمن حضر، بما كان من شأنه أن يفرّج بعض جوانب الأزمة، سياسياً واجتماعياً..
ومن الضروري الالتفات إلى الخروج المتكرر للسفير السعودي عن تحفظه في التصريحات، وأبرزها تعرضه المباشر لمواقف «حزب الله»، بينما هو في طريقه إلى العماد ميشال عون، في زيارة سادها ود مبالغ فيه، وقدمت على أنها مساهمة في المساعي لتذليل العقبات التي تعترض طريق تشكيل الحكومة الجديدة.. أما المراقبون فقرأوا فيها تشجيعاً لـ«الجنرال» على استكمال رحلة الخروج من التحالف مع «حزب الله»، مقابل حفظ «حقه» في الحكومة الجديدة.. أو العهد الجديد؟!
لكأننا عشية «انقلاب سياسي» في البلاد ترعاه المملكة التي كانت تحاذر، في ما مضى، العمل على المكشوف؟
أما إلى أين يمكن أن ينتهي بلبنان مثل هذا الانقلاب؟ فإن الأسئلة معلقة في فضاء الأزمة المفتوحة، والتي تأتي التصرفات السعودية لتزيد من تعقيداتها، خصوصاً وهي تأخذها باتجاه تحويل لبنان إلى جبهة خلفية للمعارضة السورية في «الحرب العربية» المفتوحة على النظام السوري..
على أن أبسط استنتاج يتمثل في السؤال: هل يمكن في مناخ كهذا تشكيل حكومة جديدة تحد من الأضرار التي أصابت وتصيب لبنان نتيجة الحرب في سوريا وعليها؟
وهل تستطيع السعودية أن تلعب الدور الذي لعبته سوريا ذات يوم بالرغبة كما بالتكليف في لبنان والذي طالما وصف بالوصاية، ولكنها وصاية سلَّم بها الجميع ثم آخذوا بها اللبنانيين ومن «أصدقائهم» قبل الخصوم؟!
نقلاً عن جريدة "السفير"