مصر اليوم
ثبت شرعاً ـ ما دمنا في حمى رمضان الكريم ـ ان لبنان ليس فريد عصره في كون نظامه السياسي هو الأصل، وان «دولته» هي الفرع أو الشكل أو الوعاء الذي يغطي هذا النظام ويموه حقيقته كي يغلب مظهره «الديموقراطي» على باطنه الطوائفي.
فالحقيقة ان معظم الأنظمة السياسية التي أقيمت بعد جلاء القوات الأجنبية، من دون ان تتحرر البلاد من نفوذ مستعمريها السابقين ـ الباقين، إنما كانت تمنع تحول هذه الكيانات، التي استولدت غالبيتها إرادة الأجنبي ومصالحه، إلى دول حقيقية.
تم تمزيق الجغرافيا الطبيعية، وتم تشويه التاريخ، اخترعت أساطير تبرر استيلاد الكيان، وابتدعت حكايات فيها خليط من الأسطورة المنحولة عن شعوب أخرى لفبركة بطولات وهمية لأبطال افتراضيين.. أقله في لبنان لتبرير استيلاد كيانه السياسي بالفرز والضم والإعارة، وغالباً على قاعدة طائفية.
ابتدع الكيان الأردني، وتم استيلاد الكيان العراقي قيصرياً، أما الكيان السوري الحالي فقد تطلب تجميعه معارك ضد الاستعمار الفرنسي لمنع تمزيقه إلى دويلات طائفية ومذهبية مع تحويل «الفائض» إلى متصرفية جبل لبنان، وإلى أرض لعرش الأمير الهاشمي شرقي نهر الأردن، مع تقديم «هدية» من الشمال السوري (كيليكيا واسكندرون) إلى تركيا الأتاتوركية... وكل ذلك في سياق التمهيد لاستيلاد الكيان الإسرائيلي في جنوب سوريا.
ولأن الكيانات السياسية «محميات» استولدتها المصالح الأجنبية (البريطانية ـ الفرنسية أساساً) واصطنعت لها أنظمتها، فهي الأصل في «الدول» التي أقيمت فيها: هي الباقية وان سقط النظام أو أسقطته الإرادة الشعبية. المهم ان يبقى «الكيان» بدولته المهددة دائماً بصراعات القوى والفئات، أي زعامات الطوائف والمذاهب التي قد تقبل الاتهام في ولائها لوطنها حتى لا تتهم في خروجها على نظامه السياسي وبالتالي على كيانه.
في هذه اللحظة وبينما يعيش العرب جميعهم وهج الثورة الشعبية العظيمة في مصر، التي تعمل بنجاح لتغيير النظام الفاسد فيها من دون ان تهتز الدولة أو يتهددها تفكك الكيان، تعجز الأنظمة القائمة في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن عن حماية «الدولة» في هذه الأقطار، فتتركها تتهاوى في آتون حرب أهلية معلنة أو مستترة.
أما الكيانات الخليجية التي استولدها النفط فيحميها من «يملك» النفط ومن وما فوقه من ممالك وإمارات ومشيخات، وهو صاحب القرار في شأنه وان أبقى لحكامها كل امتيازات الملوك، خارج القرار السياسي.
[ [ [
ليس سراً ان كيانات المشرق العربي تعيش مناخات حروب أهلية، لا فرق بين ان تكون معلنة أو يتم التستر عليها أو تمويه طبيعتها بالحديث عن «صدامات» بين النظام والخارجين عليه وهم بعض أهله، أو عن معارك مفتوحة بين «مكوناتها» ـ وهو التعبير المهذب أو المنافق عن الطوائف والمذاهب.
من لبنان إلى سوريا ـ فإلى العراق، مروراً بالأردن، وصولاً إلى اليمن، يعيش الناس في هذه الكيانات مناخات حرب أهلية بشعارات طائفية صريحة، وان ظل الادعاء قائماً ـ في كل منها ـ بالحرص على «الكيان»، وان سقطت «الدولة» على طريق حمايته.
وبرغم تفجر الغضب الشعبي العارم في وجه النظام الإخواني حتى إسقاطه، في مصر، فإن أهداف الثورة كانت استنقاذ الوطن ـ الدولة من الخطر الداهم الذي شكلته المحاولة المحمومة لفرض سيطرة الشعار الديني على الحياة العامة من خلال الهيمنة على الدولة وتقسيم شعبها الواحد إلى «رعايا مؤمنين ومخلصين» وخوارج متهمين في إسلامهم وكفار متهمين في دينهم وفي ولائهم لوطنهم لأنهم «أهل ذمة»، بكل ما في ذلك من تجاوز على الدين وعلى الوطنية وعلى الكرامة الإنسانية وعلى شرف الانتساب للأرض والأمة.
لقد ربت الأنظمة في المشرق الوحش الطائفي ليحميها من الشعوب التي كانت تتطلع إلى الوطن وإلى الدولة الوطنية وإلى الانتماء القومي كضمانات في وجه الخطر الإسرائيلي الداهم أو عودة الهيمنة الأجنبية للتحكم في القرار الوطني..
وها هي الوحوش الطائفية تلتهم الكيانات ودولها التي ثبتت هشاشتها لافتقادها إلى قاعدة الحماية الطبيعية: وحدة الشعب وإيمانه بوطنه وبدولته التي يحفظها شعبها ويجعلها منيعة في وجه التدخل الأجنبي كما في وجه المتاجرين بالدين والتدجيل على الناس بشعار «الحكم الإسلامي»، في حين ان الحكم عمل سياسي بحت لا علاقة له بالدين وان حاول رافعو شعاره توظيفه أحياناً في وجه مطالب شعبهم ومطامحه إلى الحرية والخبز مع العدل وحقوقه في دولته وعليها.
ولقد تعوّدنا، في سابق العصر والأوان، أن يصدّر لبنان إلى أهله العرب أفضل ما عنده: عقوله، أهل الأدب والفكر والفن، السينما والمسرح والأغنية. لم يكن دوره ينبع من مطامع حكامه، لا خلال حقبة المتصرفية ولا في عهد الانتداب، ولا حتى في العهد الاستقلالي.
كان دور لبنان ينبع من كفاءات أبنائه وقدراتهم في مختلف المجالات الفكرية والإبداعية، كالصحافة والتجارة والفن والأعمال..
صار لبنان، اليوم، مصدر الحرب الأهلية وتقاليدها، مصدر الطائفية ومولودها الأشوه «اللبننة»... وها هو المرض يستشري في المشرق عموماً.
.. في انتظار عودة مصر إلى وعيها الكامل وإلى دورها القيادي الذي لا بديل منه!