طلال سلمان
غابت الشعوب العربية، بل هي غيبت أكثر مما يجوز عن ميدان العمل السياسي، وها هي تعود من كهوف القمع والصمت بالإكراه، ساعية إلى استعادة القرار في بلادها، مستولدة حالة من «الفوضى الثورية» لغياب القيادة المؤهلة والتنظيمات السياسية ذات البرامج التي ترسم الطريق إلى المستقبل.
من الطبيعي أن تكون هذه العودة، التي جاءت مباغتة، مدوية، أن تفاجئ نتائجها الباهرة جماهيرها التي احتشدت في «الميدان» كانتفاضات غضب ورفض للنظام القائم، من دون أن تكون قد تصورت حتى في أحلامها إسقاط حكم الطغيان.
كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة في معظم «الدول» التي حوّلها حكامها الأبديون إلى إقطاعيات قد أسقطت «الشعب» من حساباتها واطمأنت ـ بعد طول عهدها بالحكم ـ إلى أنها باقية إلى الأبد، وإنها محصنة ضد مخاطر المحاسبة فكيف باحتمال إسقاطها في «الميدان»، مفترضة أن «الشعب» قد استكان وخرج نهائياً من دائرة التأثير وانشغل بهموم حياته اليومية، وهي ثقيلة جداً، بحيث تأخذهم بعيداً عن «السياسة».
كان المشهد العام يوحي وكأن الشعوب، أي الرعايا، بمجموعهم، قد خرجوا أو اخرجوا من ميدان العمل السياسي تماماً واستكانوا إلى واقعهم المزري، خصوصاً وقد تم تدمير الأحزاب السياسية، وشطبت النقابات وهيئات العمل الشعبي، وأُخرج «الشعب» من دائرة التأثير بالاعتقال والرشوة بفتات من السلطة أو بهيمنة الأجهزة الأمنية على مجال العمل العام، اما من تصدى للمواجهة فقد غيبه الصمت والمنع والقمع وبات في خانة «المفقودين».
على هذا فقد كانت العودة إلى السياسة أشبه بمسلسل من التفجرات الشعبية، بغير تخطيط مسبق، وبغير قيادة محددة واضحة البرنامج وحاضرة لمواجهة أعباء «اليوم التالي». فلا أحزاب مؤهلة لاستلام السلطة، ولا جبهة تجمع المعارضات المختلفة في شعاراتها وخططها، هذا من دون أن نتجاهل طول مدة الغياب عن مجالات العمل العام، بمختلف مؤسساته السياسية والنقابية.
باختصار، كان مناخ اليأس السائد يصرف الناس عن الاهتمام بالشأن العام، وكان المواطن المصري ـ على سبيل المثال ـ صادقاً حين يردّ على من يسأله رأيه في الحالة السائدة بالقول: «لو سمحت، أنا ما ليش في السياسة!» .. أما في أقطار عربية أخرى، فكان من يسأل يعامَل وكأنه «مخبر مدسوس» يستدرج الناس للحديث حتى يكشف حقيقة موقفهم من «النظام»، ولذلك كان المواطن المستضعف يهرب إما إلى النفاق وإما إلى الادّعاء بجهله وإما إلى انصرافه إلى شؤونه الخاصة، تاركاً القضايا العامة للقيادة السياسية التي «تعرف مصلحة الشعب ومصلحة الوطن»... وهي الموكلة بالتفكير والتدبير ومن ثم القرار.
وحده تنظيم «الإخوان المسلمين»، العريق في وجوده السياسي، خاض تجارب قاسية مع أنظمة عدة تطورت في علاقتها به من التحالف المؤقت إلى العداء المطلق، لتعود إلى نفض الغبار عنه واستدعائه لتدلل بوجوده الرمزي على «ديموقراطيتها» وأخذها بمبدأ التعددية، ثم الإفادة منه في مواجهة خصومها (وخصومه) العقائديين من اليساريين والقوميين والوطنيين عموماً.
ولقد طوع هذا التنظيم نفسه لمواجهة أشكال العلاقات المختلفة، إذ امتنع عن التقدم بطلب الترخيص كحزب سياسي، مفضلاً توصيف «الجماعة»، فلما اضطر إلى ذلك انشأ أحزاباً خارج هيكليته التنظيمية... وهو كثيراً ما قدم نفسه وكأنه «جمعية» أو «جمعيات خيرية» أو «أهلية» بتسميات مختلفة. ثم انه حرص على أن تكون له قيادة معلنة، لكن القرار ظل دائماً في أيدي قيادة غير معلنة وغير معروفة.. فضلاً عن أن تنظيمه الدولي كان يشكل قوة حماية لتنظيمه المحلي، أساساً داخل مصر، ومن ثم في الأقطار الأخرى التي كان يستطيع التحرك فيها تحت شعارات العمل الاجتماعي، بينما قياداته السياسية في المنافي حيث تستطيع تمتين شبكة علاقاتها الدولية التاريخية (بريطانيا، مثلاً، ثم ألمانيا، وأخيراً الولايات المتحدة الأميركية، ولو من الباب الخلفي..).
وتجارب هذا التنظيم حافلة بالصدام الدموي مع العديد من الأنظمة العربية، لعل أخطرها وأعظمها كلفة ـ بعد مصر الخمسينيات والستينيات ـ سوريا في السبعينيات والثمانينيات.
أما في مصر، فقد قدم «الإخوان» أنفسهم كواجهة شعبية موالية للرئيس أنور السادات حين احتاجها ليغطي صدامه مع القوى الوطنية والتقدمية في لحظة خروجه من نظام عبد الناصر وعليه، واختياره ـ بعد حرب 1973 المجيدة ـ طريق الصلح مع العدو الإسرائيلي بشروطه، والخروج نهائياً من المواجهة نصرة لشعب فلسطين وحقوقه في أرضه وقضيته العادلة.
ثم تكررت لعبة التحالف بشروط الحاكم مع نظام حسني مبارك الذي استخدم «الإخوان»، كما السادات، وأعطاهم بعض المقاعد الخلفية ليظهر «إيمانه» بالديموقراطية (تماماً كما فعل مع بعض اليساريين المتعبين بتاريخهم..).
وعندما تفجرت تونس بانتفاضة البو عزيزي كان «الإخوان» بقيادة «الأخ ألأممي» راشد الغنوشي أكثر التنظيمات جهوزية للتقدم في اتجاه السلــطة، متكــئين على علاقاتهم مع بعض دول القرار كما على تحالفهم مع بعض القوى السياسية التي ناهــضت حكم زين العابدين بن علي من مواقعها البورقيبية أو من مواقعها النقابية (الاتحاد التونسي للشغل ذي الرصيد الشعبي)... وهكذا تمكن «الإخوان» من تقديم أنفسهم كقيادة لحركة التغيير، وإن اضطروا إلى اتخاذ بعض القوى ذات التاريخ شركاء في السلطة. لكن الطموح إلى احتكار السلطة قد جر «النهضة» إلى مصادمات مع قوى وطنية وتقدمية ذات ثقل شعبي، مما سرع في قيام تكتل عريض مناهض لهيمنتها على السلطة، مما يشير إلى أن «حركة النهضة» قد خسرت فرصتها في حكم تونس، وإن دل تصرفها في مواجهة الأزمات المتوالية على التنازل ـ ولو مؤقتاً ـ عن احتكار السلطة، ريثما تتخلص من شركائها ومنافسيها عبر السلطة.
أما في مصر فقد قفز «الإخوان» إلى السلــطة بمــصادفة قدرية، ولعلهم اطمأنوا إلى أنهــم وقد وصلوا أخيراً فلا بد من «التمكين» لحكمهم باستبعاد القوى والهيئات التي نزلت إلى الميدان قبلهم، والتي زلزلت نظام مبارك حتى إسقاطه... وهكذا لجأوا إلى مخادعة المجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى تمكنوا فصرفوه بطريقة مهينة بعد فوزهم بالرئاســة، لاخـتلاف القوى السياسية الأخرى في ما بينها، ولافتقار الشباب الذين كانوا عصب الميدان إلى قيادة والى برنامج محدد، فضلاً عن افتقارهم إلى التجربة وما توفره من خبرات.
ذلك حديث في الماضي؟!
ليس تماماً، فها أن استعجال «الإخوان» احتكار السلطة وإلغاء كل القوى الأخرى التي كانت الأساس في الميدان، والتصرف بنزعة ديكتاتورية طاغية، قد تسبب في إسقاطهم بعد عام واحد على اقتناصهم تلك الفرصة القدرية التي هبطت عليهم من حيث لا يحتسبون.
لقد خسر «الإخوان» الشعب بسرعة قياسية، ولم يستطيعوا أن يكسبوا ثقة الجماهير العربية، كما لم يفد نفاقهم الغرب، والولايات المتحدة الأميركية أساساً، في تحسين صورتهم، بل تبدّوا وكأنهم عصابة اختطفت السلطة غصباً وباشروا إعادة صياغة الدولة العريقة بمؤسساتها وبيروقراطيتها المتمكنة في الواقع الاجتماعي بما يمكن لحكم مديد، برغم وضوح المشهد: إن تفردهم بالحكم مرفوض، والغلالة الدينية التي يتلطون خلفها لا تخدع المصريين المعروفين بإيمانهم العميق.
وهكذا عاد الشعب المصري إلى السياسة وبزخم أسطوري، يمارس حقه في اختيار حكمه ونظامه السياسي بما يلبي مطالبه الملحة في حياة كريمة، ومطامحه في العودة إلى دور قيادي رائد في وطنه العربي الكبير وفي مجاله الحيوي من حوله.
وبديهي أن هذه العودة إلى السياسة والى الإمساك بالقرار الوطني ستواجه صعوبات جمة، سياسية واقتصادية واجتماعية، في الداخل أساسا، ثم الخارج. ولقد هب الغرب يحاول استعادة مواقع التأثير، ومعه بعض الدول العربية التي رمت بذهبها أمام الحكم الجديد لأن لها مصلحة في وقف هذا «الاجتياح الاخواني» الذي كان يتهدد العديد من الأنظمة السلفية، والذي قد تنتقل عدواه، ولو بصيغة مختلفة وبشعارات وخطط أكثر تقدماً إلى بلاد عربية أخرى يحكمها السيف والذهب وتحاول ـ مثل «الإخوان» ـ توظيف الدين لخدمة طغيانها ولكن في اتجاه مغاير.
وواضح أن الغرب الأميركي يحاول «التوسط» لاستنقاذ دور «الراعي» لحركة التغيير مع الإلحاح على إشراك الإخوان ولو بنصيب محدود في سلطة ما، بعد إسقاطهم بالضغط الجماهيري المباشر معززاً بانحياز الجيش إلى الشعب.
واضح أيضاً أن دول الذهب الأسود تحاول استرهان الثورة، أو شراء «تطرفها»، مندفعة بعدائها لمن ينافسها في رفع الشعار الإسلامي، مفترضة انه سيكون بوسع ذهبها مع احتياجات «النظام الجديد» في مصر إلى الدعم، عربياً ودولياً، التأثير في مسار الحكم الجديد في مصر...
من هنا يمكن القول إن الثورة المجيدة التي فجرها شعب مصر، وحماها جيشه، قد باشرت مواجهة صعوبات عملية قد تؤثر على مسارها وعلى جذريتها.
ولطــالما ضاعــت ثورات وانتفاضــات شعبــية مجــيدة في دهاليز السياسة الدولية (والعربية) لافــتقادها القيادة المؤهلة وذات الخبرة، فضلاً عن الصلابة العقائدية.
لكن الأمل في وعي شباب مصر الذي اثبت باستمراره في الشارع لأكثر من سنتين ونصف السنة، انه قادر على منع التورط في الانحراف عن مطالبه، وأنه سيبقى رقيباً على إعادة صياغة الحكم في الجمهورية الجديدة بما يتناسب مع تضحياته.
ولعل من الحكمة أن يقبل هذا الشباب مبدأ أن يشارك «الإخوان»، بوصفهم قوة شعبية لها وزنها، في أية صيغة لحكم جبهة وطنية عريضة، مع التنبه دائماً لمخاطر نزعتهم القوية إلى احتكار السلطة.
لكن من الفطنة أيضاً أن يتنبه الحكم المؤقت إلى مخاطر الهجوم النفطي المذهب، فليس بالعداء لـ«الإخوان» وحده تبنى الدول، أما الذهب فطالما دمر الثورات، خصوصاً إذا ما كان في خدمة الهيمنة الأميركية.
نقلًا عن "السفير" اللبنانية و"الشروق" المصرية