طلال سلمان
«نحكم مصر أو فلتذهب البلاد وأهلها إلى الجحيم»! هذا هو شعار جماعة «الإخوان المسلمين» الذين يحاولون تحقيق مضمونه، هذه الأيام، وهذه دلالات سلوكهم في «الشارع» الذي أسقطهم من سدة الحكم التي كان قد رفعهم إليها، في مصادفة قدرية.
لم يشهد التاريخ تجربة أشد بؤساً من تجربة «الإخوان» مع السلطة... فهم قد خسروا في زمن قياسي ما لم يكونوا يحلمون به عبر تاريخهم الطويل في نشاطهم السياسي، بجانبيه: السري والذي اتسم بالتواطؤ واللجوء إلى الاغتيالات، أو العلني حين استرهنهم نظام السادات ثم نظام حسني مبارك لكي يواجه به كل منهما جمهور معارضيه، وتنفيذ ما يخالف إرادة شعب مصر ومصالحه.
مع ذلك لم يتوقف «الإخوان» لحظة لمراجعة تجربتهم البائسة ولطرح السؤال على أنفسهم، ولو على مستوى القيادة: لماذا خسرنا هذا «الشارع»، ولماذا فقدنا ثقته بهذه السرعة القياسية، وكيف لم ننتبه إلى خيبة أمله التي انقلبت ثورة غضب أخرجت ملايينه العديدة تنادي بسقوطنا في بعض أعظم التظاهرات حشداً في التاريخ الإنساني؟
بل انهم يرفضون أن ينتبهوا إلى ما يتسبب فيه نزولهم إلى الشارع، وبالسلاح أحيانا، وامتناعهم عن الاعتراف بأنهم لم يعرفوا كيف يربحون فكانت النتيجة أن خسروا الدنيا والآخرة.
لقد فشلوا في أن يكسبوا تأييد شعبهم، وكذلك فشلوا في كسب ثقة الشعوب العربية التي تتطلع إلى مصر كقيادة تاريخية لأمتها، وخسروا وأفقدوا مصر بعض احترام دول العالم، حين توسلوا المساعدات، ولم يفدهم نفاقهم دول النفط العربي في كسب تأييدها، بل لعلهم قد استفزوا قياداتها حين حاولوا اللعب عليها وتظهير انحيازهم لبعضها في مواجهة الأكبر والأقوى بقدراته وبموقعه و«بصداقاته» الدولية.
لقد كشفوا مصر، وكادوا يقدمونها إلى العالم كدولة متسولة، تقف على أبواب صندوق النقد الدولي، وعلى أبواب الاتحاد الاوروبي، مستجدية القروض والمساعدات.
وها أن «العهد الجديد» يدفع الثمن من رصيد مصر، تارة بذريعة أن الحكم اليوم هو انقلاب عسكري، مع تجاهل الحشد التاريخي الذي كاد يختصر ـ بملايينه ـ شعب مصر جميعا وهو ينزل إلى الميادين والشوارع في جهات مصر الأربع معلنا رفضه حكم «الإخوان» ومناداته بسقوط «الرئيس» الذي قدم ـ بشخصه كما بسلوكه ولا سيما بخطاباته المستفزة - أسوأ نموذج لحكم مفلس، قمعي، وجاهل في السياسة كما في الاقتصاد والثقافة بالآداب والفنون الجميلة وكأنه آت من خارج التاريخ الإنساني الحديث.
بالمقابل، فإن «الخارج» قد باشر محاولاته لأن يلعب دوراً متزايداً في خطورته على استقلال القرار الوطني المصري، مستثمراً لجوء «الإخوان» إلى المواجهة الدموية مع العهد الجديد، بكل ما تتضمنه من أعمال تخريب للمنشآت العامة وتعطيل لحركة الإنتاج، ومحاولات لإثارة الفتنة الطائفية بالهجمات المنظمة على الكنائس ودور العبادة الخاصة بالأقباط وسائر المسيحيين... ثم المساجد بعد القرار الهمايوني بالاعتصام فيها وإدخال السلاح إلى حرمها في تصرف طائش يعبر عن اليأس بقدر ما يعبر عن الاستهانة بمواقف الشعب، فضلاً عن دمائه.
وها هي الولايات المتحدة الأميركية تحاول «ترويض» الحكم الجديد، فتوفد كبار مسؤولي الخارجية «لمحاورة» قادته الأساسيين وأعوانهم من «الخبراء» واستكشاف نيّاته وسياساته... ثم تلجأ إلى خبيرها المحلف في التواطؤ، بشهادة تجربة لبنان، السفير جيفري فيلتمان المموّه الآن بغطاء المنظمة الدولية، بوصفه نائب الأمين العام لشؤون الشرق الأوسط، بأمل استغلال حاجة مصر إلى «الاعتراف الدولي» بغير شروط، وقبل أي حديث في المساعدات... لا سيما بعدما نجحت بعض الدول التي تدور في الفلك الاميركي في «عرض قضية مصر» أمام المنظمة الدولية، ولو بشكل متعجل وطارئ وبغير قصد الوصول إلى قرار حولها.
بالمقابل، تندفع دول النفط العربي إلى محاولة تطويع الحكم الجديد بإغراء المليارات من الدولارات كما بالتطوع للترويج له في عواصم القرار. وهذه زيارة وزير خارجية السعودية إلى فرنسا ودفاعه فيها عن ثورة مصر وعن العهد الجديد فيها تتجاوز «الثأر» من «الإخوان» كخصوم تاريخيين للنظام السعودي إلى محاولة التقدم للنطق باسمه وتحديد هويته.. وهكذا وجد الفريق السيسي أن لا بد من الشكر فاتصل بولي العهد السعودي لإظهار الامتنان.
أما على الضفة الأخرى، فإن الروس ومعهم الصينيون ينتظرون التطورات، خصوصاً أن الرئيس المخلوع كان قد زار كلاً من موسكو وبكين وأطلق في كل منهما الوعود والتعهدات التي يعرفون أنه لن يفي بها والتي ربما كان يريد عبر زيارتيه الخاطفتين اليهما استدراج عروض من «الأصدقاء الأميركيين» مباشرة أو عبر وكلائهم في الاتحاد الأوروبي.
لقد فشل «الإخوان» في حكم مصر، بعدما ركبوا ثورتها (الأولى) بالمناورات والخديعة والتواطؤ مع المجلس العسكري الأعلى، وها هم الآن يحاولون الانتقام عبر مواجهة ثورتها (الثانية) بفرض مواجهة في الشارع، وبالسلاح أحيانا، والتقصد في تخريب منشآتها وإثارة الاضطراب في أنحائها والإساءة إلى سمعتها عربياً ودولياً.
لم يتحمل هذا التنظيم العريق إخراجه من سلطة وصل إليها بالمصادفة، وهو الذي أمضى معظم تاريخه الطويل (أكثر من ثمانين عاماً) في الظلام، وتورط أحيانا في اغتيالات سياسية، وناور وخادع وحالف أنظمة ما بعد جمال عبد الناصر على قاعدة «عدو عدوي صديقي» فنال جوائز ترضية هامشية.
لقد دخل قادة «الجماعة» عالم الأحلام، واندفعوا يبنون عالمهم الافتراضي متجاهلين طبيعة المجتمع المصري وقواه الحية، وبالذات منها تلك التي تلاقت في الميدان وصمدت فيه مواجهة رصاص الطغيان والمخادعة حتى إسقاط نظام حسني مبارك... ولقد نجحوا في مناوراتهم، خلال المرحلة الانتقالية، حتى تمكنوا من القفز إلى سدة الرئاسة، فاطمأنوا وكشفوا عن شبقهم إلى السلطة، بل الى الانفراد بها، متجاهلين السابقين إلى الميدان من شباب مصر وقواها الحية.
لكأنهم عاشوا، لفترة، سكارى بالسلطة في عالم افتراضي بنوه بشبقهم إلى حكم مصر، ومن ثم الانطلاق منها إلى ما بعدها، متكئين على «رفاقهم» من «إخوان» تركيا الذين يستمتعون بالحكم ويحلمون باستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، ومعززين بنجاح «رفاقهم» في تونس في مصادرة السلطة بمشاركة رمزية لقوى شعبية أخرى. وربما كان بين أسباب السكر، أيضا، وعود قطر التي كان حكمها، بأميرها السابق حمد بن جاسم بن خليفة و«لسانه» حمد بن جاسم، قد أغوى «الإخوان» بالخطأ ثم بالخطيئة، استناداً إلى فتاوى الشيخ القرضاوي وتعهداته بالتأييد الحاسم من طرف التنظيم الدولي لـ«الإخوان المسلمين» ووضعه إمكاناته الهائلة تحت تصرف الحكم الإسلامي في مصر...
لعل التجربة المحدودة في غزة قد أغوتهم وزيّنت لهم أنه بالإمكان مخادعة الناس بشعار التحرير بينما السلوك العملي يهادن العدو الإسرائيلي عبر تقديم هدية ثمينة هي انقسام الشعب الفلسطيني من حول «السلطتين» في رام الله وفي غزة وطمس قضية التحرير.
لكن ذلك كله قد غدا الآن من الماضي... وهذا الماضي الذي لمّا ينتهِ هو الذي يعطّل الحكم ويسيء إلى صورة مصر والى دورها الذي لا يعوّضه غيرها في منطقتها...
بالمقابل، فإن إصرار «الإخوان» على المواجهة الدموية يحسم من قدرة العهد الجديد على تجاوز الماضي لاستكمال بناء مؤسسات الديموقراطية التي ضربها حكم «الإخوان»، ويؤخر سلوكهم في الشارع الآن موعدها مع شعب مصر وهي أخطر عناوين ثورته.
إن سلوك «الإخوان» في استفزاز الإرادة الشعبية ورفض التسليم بأن تجربتهم في السلطة قد انتهت، وان عليهم أن يراجعوا أنفسهم، ولا يضيعوا الفرصة التي لا تزال متاحة لتحديد خسائرهم، يعطل مسيرة الديموقراطية ويفرض حالة طوارئ في البلاد عامة، موفراً للجيش مساحة واسعة في القرار... لا سيما بعد ظهور السلاح، وبعد تنفيذ التهديد الإخواني بتحويل سيناء إلى جبهة مقاتلة ضد «حكم الانقلابيين»، وهذه مذبحة رفح تؤكد الاندفاع إلى تنفيذها هذا التهديد.
وهذا قد يتخذ ذريعة في واشنطن وفي عواصم أوروبية عديدة للتحفظ، ولمحاولة استغلال «أزمة العهد الجديد» في وضع شروط على تأييده.
ويبقى أن أخطر ما يمكن أن تواجهه مصر أن يرى الجيش في نفسه الحل، فيرتكب خطأ أفدح من خطأ «الإخوان»... وهذا ما يستبعده محبو مصر والمقدّرون لدور الجيش في ثورتها الشعبية المجيدة.
الشروق""