طلال سلمان
تليق بك التسعون أيها الأستاذ الذي قرأ الماضي بعقله وكتب المستقبل من قلب معرفة الحاضر بوقائعه وصناعه. ويليق بك التكريم أيها المفرد في تاريخ الصحافة العربية، والاستثنائي في تاريخ الصحافة العالمية، الذي قدّم نموذجاً ريادياً للمتعمق في السياسة إلى حد المساهمة في صناعتها من دون أن يغادر موقع الشاهد لحساب القاضي المنزه: القارئ.
لقد كنت وما تزال جامعة كبرى، بثقافتك الواسعة، بمعارفك من القادة صناع التاريخ، بذكائك، بدقتك، بلغتك الراقية التي لم يلحقها عوج والتي أثبتت أنها مؤهلة لأن تكتبنا، بفقرنا وعزتنا، بنصرنا وانكساراتنا، بموقعنا في الدنيا وجدارتنا في أن نصنع مصيرنا بإرادتنا.
وكنت وما تزال تكتب بضمير القاضي، وتتحدث بلهجة العارف، وتكتب بلغة القارئ النهم إلى الثقافة، تستعيد الوقائع التي أمست تاريخاً فتزود أجيالا بالقدرة على التحليل والفرز بين الصح والمغلوط، بين المزور والمدسوس وبين الحقيقي من «الأخبار» والمصنوع، بالعودة إلى خلفياتها بالوقائع الثابتة والشهود الذين لا ينطقون عن الهوى.
ولقد كنت من الكبار الذين حفظوا شرف الصحافة في مصر خاصة، وفي الوطن العربي عموماً، وحموا اعتبارها من الطارئين على العمل الصحفي بقرار رئاسي، وبينهم من ارتكب جرم التزوير خدمة لحاكم طاغية، أو طمس الحقائق، أو أهان اللغة لأنه رفع إلى منصب رئاسة التحرير وهو يخطئ في الصرف والنحو والإعراب ولا يحفظ حروف الأبجدية أو الحد الأدنى من أصول الكتابة.
أما في السياسة فقد قاتلت لحماية الإنجاز وأبطاله، وأسهمت في فضح المتخاذلين والمقصرين والمزورين الذين أهانوا مصر في تاريخها وأهانوا الوطن العربي في وجدانه، فزينوا الانحراف والتفرد والصلح مع العدو، بل إنهم روّجوا للعدو، وبرروا الخيانة وأهانوا دماء الشهداء.
ولقد حفظت كرامة مصر في انتمائها إلى أمتها العربية، كما أكدت للمؤمنين بمصر دورها القيادي، عربياً، وأن مصر قد تغيب لفترة ولكنها ستعود حتماً بقوة التاريخ والجغرافيا ووحدة المصير، وكل ذلك قد انتهكه التخاذل مع العدو الإسرائيلي الذي طغى فبغى وزور اسم هذه الأرض نافياً عنها هويتها الأصلية مختاراً لها موقعها الجغرافي (الشرق الأوسط) ليصبح ـ وهو الأقلية العادية والمستعدية ـ في مركز المقرر وسط أكثرية مختلفة إلى حد التقاطع، مضيعة وحدة مصيرها إلى حد الاقتتال، مبيحة ثرواتها للأجنبي بذريعة انه هو من يحميها من الأخ الشقيق.
أيها الأستاذ، وهي تسمية لا تليق إلا بك: لقد خاطبت عقولنا فنورتها، ورسخت في جيلين، أو ثلاثة أجيال، حقائق بينها وحدة المصير، ليس فقط عبر وحدة العدو ـ وهو في كل الحالات طارئ ـ بل أساساً عبر وحدة التاريخ ووحدة الجغرافيا ووحدة المشاعر التي تستوعب هذه الحقائق جميعاً، وهي تعبر عن طموحها إلى التكامل عبر الاتحاد بحده الأدنى، فيدرالياً أو كونفيدرالياً، طالما ظل حلم الوحدة بعيداً عن التحقق في المدى المنظور.
كان المصري بعيداً عن إخوانه العرب، يفصله القرار السياسي أكثر مما تفصله الجغرافيا، فأسهمتَ ـ عبر هذه المهنة التي نتشرف بالانتماء إليها ـ في تأكيد يقينه بأنه من الأمة وفيها، وأنه يحتاج إلى العرب بقدر احتياجهم إليه... ولقد ساعدتك الوقفات المشهودة لجماهير الأمة العربية إلى جانب مصر في معاركها المشرفة، من العدوان الثلاثي ضريبة القرار الوطني بتأميم قناة السويس، إلى إلزام جمال عبدالناصر بالبقاء في موقعه قائداً للأمة في معركة إعادة الاعتبار إلى جماهيرها قبل جيوشها بعد هزيمة قيادتها في 5 حزيران 1967، وإعداد العدة للنصر في الحرب التي ضيعتها قيادتها سنة 1973، لتندفع بعد ذلك إلى تثبيت الهزيمة وتقنينها عبر اتفاقات مهينة لكرامة شهداء الحروب جميعاً على أرض فلسطين ومن أجل مصر قبل فلسطين.
أيها الأستاذ،
لتكن لك الصحة من أجل أن تكمل رسالتك الخطيرة، خصوصاً في هذه المرحلة الفاصلة من عمر مصر بل والأمة العربية جميعاً.
إنك محطة تنوير لأجيال عدة ودار معارف وتوثيق لأخطر الأحداث التي مرت بها الأمة... والأخطر انك محطة إشعاع فكري بالوثيقة كما بعمق التحليل، وبالمعرفة المباشرة لصناع الأحداث كما بالدقة في نقل أفكارهم عبر النقاش الحي والخصب، الذي يستكشف آفاقاً مغلقة ويصحح مفاهيم خاطئة وجدتْ من يروج لها لتثبيط عزيمة الأمة، ولإهانة المواطن في كرامته وفى إيمانه بأرضه وفى ثقته بنفسه.
أيها الأستاذ الذي تليق بك هذه المرتبة،
لقد كنا نخاف عليك من دورك في حماية «الميدان» وثواره وهم يتابعون تحركهم المبارك حتى الإنجاز العظيم في الثلاثين من يونيو (حزيران) الماضي.. وازداد خوفنا عليك وأنت تتجاوز الخوف لتعترض على احتكار السلطة، وعلى عتو «الإخوان» في انفرادهم وفي «احتضانهم» العنيف للثورة حتى كادوا يخنقونها بذريعة الحرص على الدين في مجتمع لعله الأكثر تديناً في العالم، والأبعد عن التعصب من المجتمعات الأخرى، سواء في المغرب أو في المشرق، ولا سيما في المشرق. خفنا عليك من وطنيتك بينما حكم التعصب مغلق على الوطن والأمة مفتوح على العالمية، وهي هي الهجانة وافتقاد مرجعية المحاسبة وفرض التيه على جماهير المؤمنين الذين يخرجون بذلك من وطنيتهم ومن عروبتهم. وخفنا على مكتبتك النادرة وهائلة الغنى بمخطوطاتها الثمينة وكتبها المرجعية، فضلاً عن لوحاتها التي كادت في بعض الحالات تشغلنا عن حديثك وهو مجموعة مترابطة من الوثائق والتحليل العميق والاستشراف المعزز بفهم التاريخ للآتي من عاديات الأيام.
أيها الأستاذ المعلم،
إن أجيالاً عدة من القراء العرب قد تربوا على كتاباتك فصاروا أقدر على التمييز بين الصح والغلط، بين الحقيقي والمزور، بين الأصل والصورة الخادعة.. لقد علمتنا فن الكتابة بتلك اللغة التي طالما اضطهدت وقيل فيها إنها غير مؤهلة للحياة، وأخذ المئات عنك بعض أسلوبك الفريد، وأغنيت الصحافة العربية وأعدت إليها الاعتبار فعوقبت بأقسى مما يعاقب المفرط أو المنحرف أو المتصدي للكتابة ولا لغة وللتحليل ولا معرفة، ولتقرير الموقف وهو مجرد خادم في البلاط أو مدّعي صفة كاتب زوراً وبهتاناً.
أيها الأستاذ..
تكاد أن تكون وحدك من يُعرف بهذا اللقب، في مهنتنا عظيمة الدور، عن جدارة. فلتكن لك الصحة وأنت تتخطى عتبة التسعين وليبق ذهنك وقاداً، كما عهدناك، وتحليلك دقيقاً كما تعلمنا منه، وأسلوبك الفريد في بابه مادة لإنتاج المزيد من الكتب المرجعية التي تعرفنا بأنفسنا وتعجّل في إخراجنا من تيه الأنظمة الدكتاتورية والتزوير في وظيفة الدين الحنيف، وتعيدنا إلى أفياء الوطنية التي لا تكون بلا عروبة، كما أن العروبة لا تكون فقط بالكوفية الملطخة بالذهب الأسود والعقال الذي يتحول أحياناً إلى قيد على الفكر والعقيدة والدين والهوية جميعاً. وإلى لقاء قريب في رحاب برقاش التي ستبقى برغم الجهلة الذين يحاولون قتل الكلمات واغتيال الأفكار ونشر أنوار الدين الحنيف، بإحراق الكتب التي تحفظ قداسة الدين وجلال التاريخ ـ وهو المعلم الأكبر.
نقلاً عن "السفير"