طلال سلمان
نرجو أن ينتبه السادة وزراء الحكومة ـ المعجزة التي استولدت قيصرياً، وبعد فترة حمل قياسية، أنهم إنما يكتبون بيانهم الوزاري بدماء الشهداء، عسكريين ومدنيين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، قضوا ظلماً وعدواناً في عمليات إرهابية ارتكبها ويرتكبها سفاحون أعماهم التعصب.
لن نطالبهم بإنجازات خارقة، لا يملكون لا القدرة ولا الكفاءة ولا الوقت لإنجازها.
ولن نطالبهم بشن حرب ساحقة على الإرهاب والإرهابيين. نطالبهم بالتخفيف من صداماتهم الدونكيشوتية، وبابتلاع تصاريح الشقاق والنفاق والمزايدات ذات المردود الطائفي والمذهبي والعنصري.
احترموا أحزان شعبكم ولا تزيدوا أثقالها على الرعية الصابرة التي تنتظر بفزع التفجير التالي.
[ [ [
سيولد اليوم، على الأرجح، البيان الوزاري لحكومة الأربعة والعشرين وزيراً التي تطلّبَ تشكيلها ـ مجرد التشكيل ـ سنة إلا أربعين يوماً، ورحلات من بيروت إلى الرياض، ومن الرياض إلى باريس مروراً بروما، ومن روما إلى واشنطن عبر جنيف ـ ميونيخ انتهاءً ببرلين وعبرها طهران... في حين كانت الاتصالات المباشرة متواصلة عبر العواصم ومراكز القرار من المصيطبة إلى عين التينة ومن كليمنصو إلى الرابية، ومن بكركي إلى بنشعي، مروراً بمعراب وانتهاءً بحارة حريك، لتجاوز حق الفيتو وإجازة المرور.
أي أن التشكيل الذي تَنَافَسَ الجميعُ، خارجاً وداخلاً، على تسهيل أمره، قد استغرق حوالي السنة، وبالتحديد ثلاثمئة وعشرين يوماً، علماً أن العمر الافتراضي لهذه الحكومة هو مئة يوم إلا إذا... ما حدث وما يحدث غالباً من خارج التوقع ويتخذ شكل المفاجآت أو الصدمات أو التطورات الدراماتيكية التي تلغي الالتزام بالمواعيد الدستورية، وتبرر اللجوء إلى القاعدة الذهبية التي أدمنها اللبنانيون: الظروف الاستثنائية التي تفرض الخروج على الدستور وتبتدع أعرافاً وقواعد سلوك من خارج المألوف.
ولسوف يضحك أهل النظام السياسي من رعاياهم أسرى الانقسام السياسي ـ الفكري ـ الطائفي ـ المصلحي، مرة أخرى: لقد ابتدعوا قواعد سلوك جديدة من خارج النص، سواء أكان دستوراً أم قانوناً أم عرفاً... ومتى كانت الدساتير أقوى من ملوك الذهب أو كان القانون أقوى من الرئيس الفرنسي أو العرف أقوى من البنادرة، خصوصاً أن الذريعة هي هي دائماً: "الحرص على الوحدة الوطنية والابتعاد عما من شأنه تعميق الانقسام بين العائلات الروحية(!!) اللبنانية، تجنباً للفتنة وتعزيزاً للحمة وتوكيداً لوحدة المصير..."؟؟!
حتى دمشق الغارقة في الدماء شاركت في الاحتفال بالإنجاز اللبناني المذهل، وكذلك القاهرة المشغولة بهموم الإرهاب الإسلامي وإبداعاته الدموية اليومية، وبغداد طيرت برقيات التهنئة؛ أما في الفاتيكان فقد تبادل غبطة البطريرك القبلات مع بعض الذين سهلوا الولادة القيصرية التي كانت تهدد الوالدة والمولود والأهل أجمعين!
هي لعبة بسيطة وإن تبدت معقدة: استبدل دمشق بالرياض، وفي حال الخلاف اهرب إلى التعميم: "الدول الشقيقة والصديقة". احذف ثلاثية "الشعب والجيش والمقاومة" وضع مكانها "الجماهير والقوات المسلحة وطيور الأبابيل" أو أي تعبير يُجَهِّل صانعَ التحرير من دون ان يسيء إلى إسرائيل التي لم يعد ضرورياً الإشارة إليها بكلمة "عدو"، واشطب أي ذكر للنفط والغاز وَفَخِّمِ الكلماتِ الدالةَ على الرغبة في تحقيق التكافل والتضامن بديلاً من التحديد: العدالة الاجتماعية.
هي كأي حكومة أو حكومات سابقة: حكومة الدول... قد يحدث تعديل طفيف في التسمية والتوصيف نتيجة الاختلال في المعادلات السابقة. لقد حَلَّتْ طهران محل دمشق وتقدمت الرياض من باريس بديلاً من واشنطن التي ترفرف راياتها خفاقة في كل مكان، وبات سفيرُها في بيروت سفيرَها في العواصم جميعاً يتنقل بالطائرة بدلاً من السيارة، والإنجاز يستحق مثل هذه التضحية...
أَبَعْدَ هذا كله تريدون المضي قدماً في السخرية من هذا "الشعب الساذج" الذي "يقرأ الممحو" و"يفهمها وهي طائرة" فتزعمون انكم قد بلعتم كل الموانع الايديولوجية وأسباب التحريم بل التجريم، ثم توقفتم أمام الثلاثية الخالدة: الشعب والجيش والمقاومة!! كلمات هي، أيها السادة، كلمات... والحقائب تتسع لبضعة قواميس: عربي ـ عربي، عربي ـ فرنسي، عربي ـ انكليزي، انكليزي ـ فرنسي مطعم بالعبري.
هي حكومة أسابيع، لا تستطيع ان تتحمل عبء كلمة ثقيلة كالمقاومة... ولكنها تستطيع الإعداد لانتخابات الرئاسة، وهي كونية بطبيعتها.
اشطبوا ما شئتم من الكلمات. الكلمات اخطر من الحقائب والمناصب. المهم استيلاد الحكومة بأي ثمن.
فلنستعد لدفع الثمن إذن!