طلال سلمان
في الماضي القريب، أي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان عرب المشرق، بدءاً من سوريا مروراً بالعراق وصولاً إلى الجزيرة العربية والخليج، يأخذون على اللبنانيين "كيانيتهم" التي صارت تهمة توازي "الانعزالية"، والتبرؤ من الانتماء العربي الذي باتت له تسمية سياسية محددة هي "العروبة".
ولقد عانى العروبيون في لبنان من اتهام مزدوج:
÷ داخل لبنان كان الاتهام يطاول وطنيتهم، فيكاد خصومهم ـ فكرياً وسياسياً ـ يتهمونهم بالخروج على "كيانهم" الذي صار "دولة" بلا هوية قومية محددة، بل تجمع في تبريره خليط من الفينيقية والأممية مع إشارة عابرة إلى "العرب" الذين بلغ الأمر ببعض المؤرخين المحليين حد وصفهم بـ"المحتلين".
÷ أما خارج لبنان فكان بين العرب كثير من "الكيانيين" الذين لم يستطيعوا مواجهة انتصار العروبة في الخمسينيات فتواروا عن المسرح من دون أن يغيروا مواقفهم.. فلما انتكست الدعوة القومية بسقوط النموذج الوحدوي (الجمهورية العربية المتحدة التي قامت من اندماج مصر وسوريا في دولة واحدة) عادوا يرفعون أصواتهم متخذين من الكيانية اللبنانية ملجأ وملاذاً.
صار لبنان، فجأة، واحة للحرية السياسية والاقتصاد الحر والفكر والإبداع والتقدم الاجتماعي، وجاءت إليه البورجوازيات العربية الهاربة من الوحدة والاشتراكية وقوانين التأميم.
صارت التشوهات الراسخة في الكيان اللبناني مزايا، وصار لبنان العربي قليلاً، الدولي كثيراً، النموذج المرتجى للعديد من المنظرين، بينما أهله يتظاهرون ضد نظامه الطوائفي.
ولقد تلاقت البورجوازية العربية مع بعض اليسار العربي على مخاصمة الوحدة ودولتها بقيادة جمال عبد الناصر، كلٌ لأسبابه.
...وجاء الجميع إلى لبنان وعاصمته الكوزموبوليتية: بيروت.
جاء أصحاب رؤوس الأموال هاربين من قوانين التأميم التي توالى إصدارها في دولة الوحدة ـ الجمهورية العربية المتحدة ـ وبعدها العراق.
وجاء الحزبيون، عموماً، والبعثيون (السوريون ثم العراقيون) بشكل خاص، بعدما انقلبوا على دولة الوحدة وقيادتها، وانقلب عندهم جمال عبد الناصر من بطل القومية إلى الدكتاتور قامع الحريات وسجّان المناضلين.
وجاء أيضاً الشيوعيون الذين كانوا قد مشوا تحت صورة عبد الناصر خلال العدوان الثلاثي على مصر (فرنسا وبريطانيا وإسرائيل ـ 1956). وقد وجد السوريون منهم بالذات في لبنان الملجأ والمنصة للهجوم.
طبعاً، جاء قبل هؤلاء وبعدهم، كبار الرأسماليين ورموز البورجوازية الوطنية من أصحاب الثروات أو المصانع وسائر وسائل الإنتاج، ونقلوا ثرواتهم وخبراتهم وعلاقاتهم العربية والدولية إلى لبنان بعدما انتبهوا إلى انه يصلح لأن يكون الملجأ والمنصة الممتازة للهجوم.
تبدل المشهد.. وتلاقى الخصوم القدامى، الحلفاء موضوعياً الآن، جميعاً في ساحة لبنان: الكيانيون بمختلف هوياتهم، يمينيون مغرقون في كيانيتهم المتصلة بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية (السوري، العراقي، الفلسطيني الآخر والإخواني بالذات، وقد انضم إليهم "المصريون البيض" ممن اكتشفوا بعد عشرات السنين أصولهم اللبنانية والتي انتقوا لها مناطق محددة بلونها الطائفي في لبنان).
تلاقى في أفياء الحرية اللبنانية "الأعداء السابقون" أو "الخصوم العقائديون": الشيوعيون، الإخوان، البعثيون، البورجوازيون وكذلك الذين انتبهوا، ولو متأخرين، إلى انتمائهم الطائفي.
هذا عن الماضي "الناصري" الذي جاءت بعده "عهود" كثيرة في كل من مصر والعراق وسوريا وليبيا (ويمكن إضافة اليمن)، حاولت في البداية أن تدّعي الانتساب إلى "القومية" بل إن بعضها ظل محافظاً في الدستور الذي اصطنعه لنظامه على المادة التي تنص على أن "بلاده جزء من الأمة العربية" وعلى أن هدفه "التقدم في اتجاه الوحدة العربية".
هل من الضروري القول إن كل تلك الادّعاءات إنما كانت جسر عبور يضمن "تسكين" الجمهور وتطمينه إلى أن الأهداف الكبرى باقية هي هي، وأن "النظام الجديد" ليس إلا عملية تصحيح وعودة إلى الطريق القويم للوحدة والحرية والاشتراكية أو الاشتراكية والوحدة والحرية لا فرق كيفما تم ترتيبها.
ثم، بعد دهر، تفجرت الأرض العربية بالثورات والانتفاضات بدءاً من انتفاضة البوعزيزي في تونس قبل أربع سنوات.
انتعشت الآمال بعودة الروح إلى العروبة بوصفها الهوية الجامعة للعرب في مختلف أقطارهم، ورأى المواطن الطبيعي الذي تتلازم في ضميره الثورة والعروبة والتقدم في "الميدان" باعثاً لآماله بعودة الروح إلى وحدة المصير ووحدة الهوية بين العرب في مختلف أقطارهم، لا سيما وكلهم يؤمن أن الثورة هي الطريق إلى غده الأفضل.
بعد أربع سنوات من "الميدان"، وسلسلة انتفاضات أسقطت أنظمة الطغيان في كل من تونس ومصر وليبيا وخلخلت ركائز أنظمة أخرى، عادت إلى السطح جملة من الأمراض والتشوهات، بعضها سابق على قيام هذه الأنظمة وبعضها الآخر وليدها، وإن كانت جميعاً تصب في مجرى "الكيانية"، بل لقد ظهرت في أقطار معينة دعوات انفصال عنصرية. وإذا كانت للأكراد في العراق "قضية" قد يبررها اضطهاد عهد صدام حسين الذي كان قد اقر بالحكم الذاتي ثم نكل عنه، فليس الحال واحداً مع "الأقليات"، عرقية أو قومية، في ليبيا أو في اليمن، وأخيراً في سوريا ومعها العراق حيث باتت "الطائفية" هي التبرير الأساس للدعوة الانفصالية.
إن هذه "الأقليات"، إذا ما صحت التسمية، كانت دائماً موجودة، سواء اتخذت مواقع دفاعية في مختلف الأقطار، أو اتخذت موقفاً هجومياً كما في لبنان الذي بدأ ينشر عدواه شرقاً وغرباً.
وعلى سبيل المثال، فقد أودت خيبة الأمل من "العرب" في فلسطين إلى ارتداد عنيف عن العروبة إلى القطرية أو الإسلامية أو إلى مزيج منهما معاً، وعموماً إلى "انفصالية" ما عن العرب والعروبة.
وليس من التجني القول إن الكيانية عادت تطل من ميادين الانتفاضة وقد موهت نفسها بالشعار الثوري، عائدة إلى شعارات حكم الاستبداد: مصر أولاً، تونس أولاً، ليبيا أولاً، سوريا أولاً، العراق أولاً، الخليج أولاً...
وكأن كل هذه الأقطار صارت "لبنانات" جديدة.
كل ذلك على حساب الهوية العربية الجامعة، وعلى حساب القضية المقدسة فلسطين، وعلى حساب الفرصة التاريخية التي أتاحتها الانتفاضات لتصحيح المسار التاريخي لحركة المجتمع بالعودة به إلى حقيقته الثابتة: إن هذه الأقطار، على اختلاف أنظمتها، تشكل بهويتها الجامعة "وحدة قومية"، إن غفل عنها أهلها فلن يغفل عنها أعداؤها وخصومها في الخارج والداخل.
هل هذا يعطي كاتباً من لبنان، مثلاً، حق الحديث في الشأن المصري، أم أن في ذلك تجاوزاً على وطنية المصريين وتطفلا على شؤونهم الداخلية وعدائية تجاه نظامهم الوليد الذي ما زال يبحث عن هويته كما عن طريقه إلى غده؟
وليسمح لي بهذه الملاحظة العابرة، ولكنني لم استطع أن اقبل من بعض الفضائيات المصرية أن تطلب رأيي في بعض التطورات الجارية في هذا القطر العربي أو ذاك، ثم نتدخل فيه، حين استشهدت بوقائع محددة تدل على الترابط الأكيد بين ما يحدث في كل من تونس وليبيا ومصر وعلى المقلب الآخر في سوريا والعراق، وكله يصب في نهر الفتنة...، من دون أن ننسى الخلاف والاختلاف بين طبيعة الأنظمة الجديدة قيد الإنشاء وتلك القديمة، وبينها مجتمعة وتنظيمات الإسلام السياسي، بسلفييه في "القاعدة" ومحدثيه في "الإخوان" بمختلف تلاوينهم.
مع التمني ألا تطول الحيرة فيطول الضياع وتسنح الفرصة لأعداء الميدان والمتضررين منه لتجميع صفوفهم، مجدداً، من اجل الهجوم هذه المرة.