ليس من دولة عربية اليوم تستطيع الادعاء أنها «مستقلة».
إن الدول العربية جميعا مرتهن قرارها، منتهكة سيادتها، بالاحتلال المباشر وبالقواعد الأجنبية فيها، وبأساطيل الطيران الحربى لدول أجنبية تتوغل فى فضاءاتها من دون إذن، وتتخذ فى بعضها قواعد لطائراتها الأسرع من الصوت وقذائفها التى تسرع الموت.
قد تختلف أشكال «الاحتلال» أو «الهيمنة» أو «السيطرة على القرار الوطنى المستقل»، لكن المؤكد أن هذه الدول العربية لا تستطيع أن تتقارب فيما بينها، بعيدا عن أحلام الوحدة أو الاتحاد، إلا بموافقة دولة أو دول أجنبية ولمصلحتها بالدرجة الأولى، كما أنها لا تستطيع أن تذهب بالخصومة مع «أهلها» و«جيرانها الأقربين» إلا بتحريض أجنبى مكشوف أو مستتر وحماية معلنة.
لا جدال هنا فى أن الهيمنة الجدية، اقتصاديا بالأساس، ومن ثم عسكريا وبالتالى سياسيا، هى للغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بعسكرها وقواعدها ومخابراتها بأجهزتها المتعددة، قبل الحديث عن الاقتصاد، والنفط والغاز خاصة.. ثم عن التبادل التجارى وهى معادلة تشبه معادلة الأسد والفأر.
إن ثمة قواعد عسكرية أمريكية فى معظم أقطار الجزيرة والخليج، ومعها أيضا قواعد فرنسية وبريطانية.
وهناك قواعد عسكرية روسية فى سوريا، إضافة إلى وجود عسكرى فرنسى طارئ فضلا عن الوجود الإيرانى، بمعزل عن المساعدات والقروض والهبات والمعونات الاقتصادية التى قدمت وما تزال تقدم إليها وهى تحاول اجتياز محنتها فى الحرب فيها وعليها..
وفى العراق أيضا «بقايا» وجود عسكرى أمريكى مؤثر، ووجود بريطانى ملحق ومعه ما تبقى من قوات حليفة لواشنطن شاركت فى غزو العراق وإطاحة صدام حسين، وتوغلت فى اللعبة السياسة الداخلية حتى صارت جزءا منها.
***
أما فى لبنان فكل الغرب موجود، وإن كانت الأرجحية المطلقة عسكريا واقتصاديا للولايات المتحدة الأمريكية التى لها ما يشبه «القواعد الجوية» فى بعض مناطق الساحل اللبنانى على شكل مراكز تدريب.
وإذا ما تجاوزنا القاعدة الأمريكية العظمى فى فلسطين المحتلة (إسرائيل) فإن الوجود العسكرى مؤكد وحاضر فى بعض دول شمالى إفريقيا، ربما مع استثناء الجزائر.. وإن كان النفط يظل موضع تأثير اقتصادى، ولو محدودا.
ولقد تم تعظيم «الخطر الإيرانى» لاستنفار الجزيرة والخليج، وتعيش بعض دول الخليج هاجس الخطر الإيرانى إلى حد أنها فتحت أراضيها وشواطئها لقواعد عسكرية أمريكية وفرنسية، وشاركت ــ بشكل أو بآخر ــ فى الحرب على سوريا، وفى التضييق على لبنان».
***
واضح أن تأثير «الغياب المصرى» على السياسات العربية مفجع..
فمصر وحدها هى التى تستطيع أن تعيد التوازن إلى العلاقات العربية ــ العربية. ومع أن القاهرة قد حافظت على «علاقة ناعمة» مع سوريا عبر إبقاء سفارتها مفتوحة، ولو على مستوى قنصلى، وتبادل المعلومات عبر أجهزة المخابرات.. إلا أن مصر تستطيع، لو أرادت، أن تلعب دور «الجامع» و «المقرب» بحكم ثقلها، والمصالح المشتركة، ونفوذها ــ بحكم التاريخ ــ على المستوى العربى..
كذلك، كان يمكن للجزائر أن تلعب دورا مؤثرا فى إعادة العلاقات العربية ــ العربية إلى سويتها، نتيجة لنفوذها المعنوى، إلا أن حكومتها تبدو عاجزة.
***
كيف لا يمكن أن يضيع ما تبقى من فلسطين فى ظل هكذا أوضاع عربية؟
لقد بات المغرب بعيدا جدا عن المشرق، بعد غياب مصر عن دورها الجامع، وغرق سوريا فى دمائها، وغرق العراق فى حربه ضد «داعش»، فضلا عن مخلفات حكم الطغيان بقيادة صدام حسين، ثم ما ألحقه الاحتلال الأمريكى من دمار فى البنية التحتية، فضلا عن دوره التخريبى فى علاقات العراقيين بعضهم ببعض وصراعهم الطائفى المفتوح (سنة وشيعة) حول السلطة ومركز القرار فيها. وهكذا ولى الأمريكيون العراقيين العائدين من المنافى بغالبيتهم الشيعية مركز القرار (تحت إشرافهم) بغض النظر عن أهليتهم وأمانتهم ونظافة الكف، فزاد النهب والفساد. ثم جاءت «داعش» بحربها واحتلالها الموصل وأكثر من نصف مساحة العراق لتزيد الخراب والتدمير والفقر والضياع فى غياهب الطائفية والمذهبية.. والعنصرية، إذا ما تذكرنا غرور مسعود البرزانى وإصراره على تحويل الفيدرالية التى كان سلم بها النظام إلى انفصال.. عدائى، كان بديهيا أن يسقطه الأكراد أنفسهم بقوة انتمائهم إلى العراق، قبل أن تتدخل السلطة المركزية لحسمه، وإعادة الأمور إلى سابق عهدها.
ولقد أفاد العدو الإسرائيلى من هذه التطورات الدراماتيكية التى أعادت تقسيم العرب ليس بين المشرق والمغرب، بل كذلك على أساس طائفى ومذهبى (سنة وشيعة، علويون ودروز ومسيحيون، فضلا عن الانقسام العنصرى، عرب، كرد، سريان، أشوريون، أيزيديون وصابئة.. إلخ).
هكذا بات الجو ملائما، مع الدعم الأمريكى المفتوح والتشتت العربى لكى يعلن قادة العدو الإسرائيلى «قرارهم التاريخى» بإعلان إسرائيل «الدولة القومية ليهود العالم».
***
ولقد كانت ردود الفعل العربية على هذا «القرار التاريخى» خافتة وخجولة، بل إن بعض هذه الدول قد تجاهل القرار تماما، مع أنه يشمل فيما يشمل تهديد من تبقى من الفلسطينيين العرب داخل الكيان المحتل بالطرد، لتكون إسرائيل «وطنا يهوديا خالصا»..
حتى رد فعل منظمة التحرير الفلسطينية كان باهتا وبلا معنى، وتصرفت وكأن الامر لا يعنيها.
تتهاوى الدول العربية فتندثر أو تكاد (اليمن، ليبيا، سوريا، التى تحتاج إلى إعادة إعمار شاملة، وكذلك العراق).. أو أنها تغرق فى حروب عبثية ضد بعضها البعض (السعودية والإمارات ضد اليمن، دول الخليج بعنوان قطر ضد سوريا، تجاهل العراق).
بالمقابل فإن دول الخليج، لا تفتأ تندفع إلى حافة الحرب ضد إيران، فى حين يفتح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أبواب المفاوضات أمام «حكم الملالى» فى طهران.
إنه وطن عربى ضائع عن طريقه إلى مستقبله، يكاد يخسر حاضره فى ابتداع أعداء لم يكونوا أعداءه إلى عهد قريب.. دولة مقتتلة فيما بينها (حتى لا ننسى سوريا والصراع حول لبنان والعراق وليبيا البلا دولة..).
من أين سيأتى المستقبل الأفضل طالما أن القادة والمسئولين يقفلون أبواب المستقبل بحروبهم ضد الذات ومهادنة عدوهم الأصلى والأساسى: إسرائيل، ومن يحميها ويدعمها ويجعلها متفوقة على مجموع العرب.
تلك هى المسألة..
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع