بقلم طلال سلمان
في التاريخ، أي تاريخ لأي شعب أو وطن، صفحات سوداء يستحسن أن تُطوى فتُنسى لتستقيم حياة الناس (الشعب) خارج جهنم الأحقاد ولوثة الثأر والرغبة في الانتقام متى واتت الظروف وتبدلت موازين القوى، وجاءت اللحظة المناسبة لطي صفحة ماضٍ مضى ومن الواجب التخفف منه.
مناسبة هذه «المقدمة» استذكار بعض المتطرفين من بقايا «القوات اللبنانية» ـ الأصلية؟ ـ الذكرى المنسية لاغتيال قائدهم الراحل الشيخ بشير الجميل الذي وصل، بل أُوصل، في الوقت الغلط وبالأسلوب فاضح الغلط إلى منصب رئيس الجمهورية بشيء من الزور مع شيء من التهديد والرشوة متعهداً بالشراكة، مع «الراغبين في الانضمام إلى قافلة العهد الجديد..»، وهم قد استذكروه بنشر لوحات برسم مجسم للشيخ الذي انتُخب في ثكنة عسكرية بالفياضية، بحراسة قوات الاحتلال الإسرائيلي، رئيساً، ثم جاء اغتياله قبل أيام قليلة من تسنّمه المنصب الرفيع، «فورثه» فيه شقيقه الشيخ أمين..
كان ذلك في زمن الاجتياح الإسرائيلي الذي تمدد من جنوب لبنان إلى بعض الجبل وصولاً إلى بيروت، حيث ارتُكبت بإشرافه ـ وكشافاته المضيئة ـ وتحت رعايته مذبحة رهيبة في مخيمي صبرا وشاتيلا ذهب ضحيتها أكثر من ألف وخمسمئة إنسان، أكثريتهم من النساء والأطفال والكهول والشيوخ من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين فيهما منذ دهر، ومعهم عدد من الشبان وكثير من الأطفال الذين لم تكن أمامهم فرصة للهرب، ناهيك بالمواجهة، وكذلك عدد من فقراء اللبنانيين والعمال السوريين الذين اتخذوا من المخيم دار سكن.
ولقد اجتهد حزب الكتائب في التنصل من مسؤولية تنظيمه المقاتل «القوات اللبنانية» التي كانت بقيادة الشيخ بشير الجميل، عن هذه المذبحة المروعة... لكن العدو الإسرائيلي كانت له مصلحة مباشرة في رمي التهمة على «حلفائه» اللبنانيين، لتبرئة جنود احتلاله بقيادة السفاح ارييل شارون... خصوصاً وأن المذبحة كانت مهولة بحيث لا يمكن أن تُغتفر أو تُنسى، وقد وثّقتها، في ما بعد، مؤسسة برتراند راسل، بوصفها جريمة ضد الإنسانية. كما ان الباحثة المحترمة الدكتورة بيان نويهض قد أنفقت سنوات من البحث والتدقيق وتجميع الشهادات والصور لتوثيق هذه الجريمة ضد الإنسانية، في كتاب مرجعي ترفعت فيه عن توجيه الاتهامات السياسية واكتفت بعرض الوقائع وشهادات الناجين وما توصلت إليه مؤسسات دولية من استنتاجات محايدة.
محيّر هذا الاستذكار المتأخر للشيخ بشير الجميل، ومن دون مناسبة، إلا إذا كانت «القوات اللبنانية» ـ 2 أو 3 أو 4؟ ـ تحاول تقديم نفسها مجدداً عبر هذه الصورة التي تحمل في خلفيتها ذكريات سوداء يجهد اللبنانيون (والفلسطينيون) في تجاوزها (وليس نسيانها).
ونحب أن نفترض أن حزب الكتائب بقيادته الجديدة، من البيت الواحد، لا علاقة له بهذا الاستذكار المتأخر، والذي من شأنه أن يشوّش على الحزب وأن ينكأ جراحاً غائرة لا تفيده في حاضره أو مستقبله.
واعترف بأن طريقي، امس الأول، من بيروت إلى بنت جبيل للمشاركة في احتفال «موقع بنت جبيل الالكتروني»، الذي حقق نجاحاً قياسياً، ثم العودة إلى بيروت بعد منتصف الليل، كانت ممتعة إذ رافقتني، في الذهاب والإياب، صور الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي طوال عشرين عاماً تقريباً حتى أجبروه على الانسحاب ذات ليل من أيار 2000، ثم في مواجهة حربه المدمرة في تموز ـ آب 2006، والتي نحتفل هذه الأيام بالذكرى العاشرة للانتصار فيها..
لعل هذه الطريق المزينة بصور المئات من الشهداء في المواجهات مع العدو قبل التحرير، ثم في المواجهات البطولية مع جيشه المصنف بين أقوى جيوش العالم تجهيزاً وتسليحاً، على امتداد ثلاثة وثلاثين يوماً استغرقتها «حرب تموز» قبل عشر سنوات..
لعل هذه الطريق التي تكتسب الآن ملامح الشهداء الذين تصدوا لجيش العدو فأحرقوا دباباته وواجهوا جنوده، وجهاً لوجه في بنت جبيل وعيترون وسهل الخيام ومارون الراس وعيناتا وصفّ الهوا ووادي الحجير والطيبة وعشرات المواقع الأخرى الخ..
لعل هذه الطريق بصور الشهداء تخترق العتمة منيرة الطريق ما بين بيروت وجبل عامل تحيّي العابرين وتطمئنهم إلى أن وطنهم بخير، وهو لهم.
على أن ذاكرة لبنان السياسية تخترق النسيان... وهذه بين ضرورات الوحدة الوطنية!
عشتم وعاش لبنان!