لم تكن مصادفة أن يرحل الدكتور كلوفيس مقصود، الكاتب ـ الداعية، المفكر المميز، المحاضر، الخطيب المفوّه، سفير القضية الفلسطينية بوصفها حبّة العقد في النضال العربي، مع «الاحتفال» بالذكرى المئوية لمعاهدة «سايكس ـ بيكو»، واستباقاً للذكرى المئوية لـ»وعد بلفور»، وهما قد حكما معاً مصير المشرق العربي عبر تقسيمه دولاً شتى تمهّد لغرس الكيان الصهيوني، بالقوة، فيه.
لقد انتدب نفسه هذا الأستاذ الجامعي، ماروني الأب ـ أرثوذكسي الأم، اشتراكي التفكير، عروبي الإيمان، ليكون ـ بداية ـ سفير الجامعة العربية، بل سفير العرب جميعاً إلى الهند، حيث بات داخل بيت زعيمها جواهر لال نهرو وعائلته، ثم إلى دول كثيرة وفي مهمات متعددة، قبل أن يصير في الأمم المتحدة، في نيويورك سفيراً ثم في واشنطن معتمَداً وبيتاً لفلسطين وناطقاً باسم العرب، ثم مناضلاً باسم «الجنوب»، حيث أنشأ قسماً خاصاً في جامعة واشنطن للعالم الثالث.
في بيروت التي نشأ فيها الفتى المولود لأبوين مهاجرين في الولايات المتحدة الأميركية كان كلوفيس مقصود ـ الطالب ـ ثم المتخرّج المعزز بدكتوراه في العلوم السياسية، «داعية» نشيطاً ومبشراً باشتراكية عربية (ظلت حتى الساعة قيد الإنشاء)، ومناضلاً لا يتعب من أجل فلسطين، قضية مقدسة ثم ثورة قدمت الشهداء أفواجاً من أجل التحرير، خطيباً وكاتباً، متظاهراً وأستاذاً في أوقات الفراغ، يتصيّد المراسلين الصحافيين الأجانب ليشرح لهم «القضية المقدسة»، مصححاً ما أمكن من معلوماتهم المزوَّرة عن تاريخ فلسطين ونضال شعبها من أجل حريته واستقلاله في مواجهة الانتداب البريطاني الذي استولد الكيان الصهيوني تحت رعايته.
ولعل نقطة التحول الأساس في حياة كلوفيس مقصود تتمثل في اللقاء الذي طلبه فناله مع الرئيس ـ القائد جمال عبد الناصر، بعد تجربة حزبية مع الزعيم اللبناني كمال جنبلاط.
بعدها ستختار الجامعة العربية كلوفيس مقصود ليكون سفيرها لدى الهند، «فاقتحم» بيت زعيمها جواهر لال نهرو حتى سكنه.. وحين عُقد «مؤتمر باندونغ»، وجد هذا المجتهد حيوي الفكر فرصة تاريخية للتعرف إلى زعماء حركة عدم الانحياز، سوكارنو وتيتو وشو إن لاي، ثم أبطال التحرير في افريقيا نكروما وموديبوكيتا وسيكوتوري ولومومبا.
ولقد بات منذ ذلك الوقت داعية للعالم الثالث يبشر بقدراته، إذا ما توفرت له القيادات المؤهلة لبناء الغد الأفضل..
على أن نكسة 5 حزيران 1967 سرعان ما بددت بعض أحلام كلوفيس مقصود، فترك جامعة الدول العربية لينتسب إلى «أهرام» محمد حسنين هيكل كاتباً وناشطاً في مجال العلاقات الدولية، محاوراً ضيوف قاهرة عبد الناصر من المفكرين والدعاة المبشّرين بغد أفضل للإنسان في أربع رياح الأرض.
وكان بيت هذا المتفائل الأبدي، والقادر على اختراع الأمل من قلب حالة اليأس التي أخذت تشقّ طريقها إلى نفوس «الجماهير»، ملتقى كبار زوار القاهرة من سياسيين ومفكرين عرب وأجانب ممن تستضيفهم «الأهرام» ثم يدعوهم إلى منزله في الجيزة، الذي كان قبله لمؤسس الحركة الشيوعية في مصر هنري كورييل.
بعد ذلك ستوفده جامعة الدول العربية إلى واشنطن، حيث سيلتقي شريكة حياته، هالة سلام، ابنة العائلة السياسية المعروفة في لبنان، والمناضلة بل المقاتلة من أجل حق الفلسطينيين في بلادهم... وصورها لا تُنسى حين أقامت اعتصاماً ونصبت خيمة أمام البيت الأبيض احتجاجاً على الدعم الأميركي المفتوح للعدو الإسرائيلي الذي لم يتوقف عن ارتكاب المجازر ضد الشعب الفلسطيني. وسوف يذهب إلى الأمم المتحدة في نيويورك، وكأنه وفد قائم بذاته، للدفاع عن القضايا العربية، وفلسطين عنوانها.
لم يكن «دون كيشوت»، لكن سائر فرسان القضية تاهوا عنها أو تعبوا من يأسهم الذي مصدره التخلي العربي، خصوصاً بعد حرب تشرين الأول ـ أكتوبر 1973، حين اهتمّت دول المواجهة بشؤونها، تاركة فلسطين المستضعَفة إلا بثورتها للعبة الدولية التي كانت السبب في نكبتها.
كتب كلوفيس مقصود كثيراً، وخطب أمام محافل دولية شتى، ونزل ضيفاً ومبشراً بالحقوق العربية عموماً، وفلسطين أساساً، على مؤسسات جامعية ومنتديات فكرية عديدة وأنتج كتباً كثيرة، وقاوم اليأس من سوء الأحوال بالأمل في التغيير، وكانت مصر مركز البوصلة في تفكيره ومصدر أمله دائماً.
وبرغم بُعده جغرافياً عن «الميدان» فقد كان دائم التردّد على القاهرة ومركزه فيها بيت محمد حسنين هيكل، بعد رحيل أحمد بهاء الدين... وظل على صلة بجامعة الدول العربية بعدما رحّلتها معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي، فحطّت رحالها في تونس بعهدة الشاذلي القليبي الذي كان يشرح لكلوفيس مقصود ما يرى فيترجم له كلوفيس ما تقول المسرحية.
ولقد كان لكلوفيس مقصود ثروة من الصداقات في مختلف الأقطار العربية، وكان يجول عليهم ـ محاضراً وخطيباً وداعية ـ في مناسباتهم الوطنية أو مشاركاً في ندوات فكرية وحلقات دراسية، معززاً الأمل مقاوماً اليأس بتفاؤله الذي لم يغادره يوماً، والنابع ـ بالتأكيد ـ من إيمانه بعدالة قضيته.
لعل هذا يفسّر رنة الحزن التي عمّت الأوساط السياسية والديبلوماسية والصحافية العربية، على غياب هذا المناضل الحقيقي ضد اليأس والخيبة والهزيمة، مذكراً بقدرات هذه الأمة التي يشهد لها تاريخها بأنها قادرة ومؤهلة لبناء غدها الأفضل إذا ما اجتمعت كلمتها، التي ندر أن اجتمعت ـ مع الأسف الشديد.
لقد خسرت الأمة واحداً من «مجاهديها» بالفكر والكلمة والإيمان بقدراتها، وكان بديهياً أن يكتب مَن عرفه أو قرأ له أو استمع إليه محاضراً، شهادات عن صموده على إيمانه، وثباته على ما يعرف أنه الحق، حتى لو تخلت عنه الكثرة بسبب من ضعفها أو يأسها أو مرارة التجارب السابقة في سياق النضال من أجل الوحدة، أو أقله التضامن في مواجهة الأعداء والطامعين، وعلى رأسهم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين (وللإرادة العربية) ومعه بطبيعة الحال القوى الداعمة والحامية والمساندة في الغرب والشرق، وإن ظلت الولايات المتحدة الأميركية تحتلّ مركز الصدارة.
فضلاً عن هذا كله فقد كان كلوفيس مقصود ظريفاً سريع البديهة في إطلاق النكات أو في الردّ على من «يشنع» عليه، إلى حد القول إن فعلاً جديداً قد أضيف إلى اللغة العربية وهو فعل «كلفس»: «فإذا كانت الفلسفة هي رد المجهول إلى معلوم، فإن الكلفسة هي ردّ المعلوم إلى مجهول».
ولقد شكل الراحل منح الصلح مع كلوفيس مقصود ثنائياً لامعاً، ولطالما شهد «مطعم فيصل» الذي أعطى اسمه عنواناً للجامعة الأميركية في بيروت، جولات من التباري في التشنيع وفي استيلاد النكات والنكات المضادة، حتى صار مقصداً للراغبين في جلسات أنس عمادها الظرف المستند إلى ثقافة عريضة وإلى معرفة واسعة بأحوال الدول والعباد فيها.
لقد كان كلوفيس مقصود، بحق، شاهداً على عصر كامل، حفل بالآمال العراض والانتكاسات الموجعة. لكن ابن وادي شحرور ـ الشويفات في جبل لبنان، استطاع أن يكون «العربي» بامتياز، يعرفه ويسمعه ويقرأ له ويقدره أهل المغرب كما أهل المشرق، وان كانت القاهرة هي المركز وبيروت هي المنطلق وواشنطن هي المقرّ الذي كان مؤقتاً فصار دائماً.
لقد عاش حياته الحافلة بالأمل وعليه، وقاتل اليأس حيثما وجده، وكان ثابت العقيدة لا تهزه الخيبات المتكررة، ولا النكسات، بل حتى الهزائم، لأن إيمانه بالأمة، بالشعب، كان الأقوى.
ولو تسنى لكلوفيس مقصود أن يجمع محاضراته ومناقشاته الفكرية مع «الكبار» في عالم الفكر السياسي، كما في قضية الاشتراكية وضرورة الوحدة العربية لأعطانا مكتبة غنية جداً تصلح مرجعاً مميزاً، لاسيما في هذه المرحلة التي يكاد اليأس من الذات أن يغدو عنواناً لها.
لقد أخذ كلوفيس مقصود عن أساتذة كبار وتعلّم منهم وبشر بالمبادئ التي كانوا يعملون لتحقيقها: من كمال جنبلاط اللبناني إلى جواهر لال نهرو الهندي، ومن جوزيب بروز تيتو اليوغسلافي الوحيد إلى شو إن لاي المليار صيني، ومن أحمد سوكارنو الأندونيسي إلى قسطنطين زريق المفكر القومي والأستاذ الجامعي.
أما جمال عبد الناصر فقد كان له موقعه الخاص، خصوصاً وأن أول لقاء له معه كان في بدايات الثورة (1953)، ثم استمرّ مفتوحاً كلما سمحت الظروف بإتمامه..
في المقابل فقد أعطاه محمد حسنين هيكل المنبر في «الأهرام» والفرصة لأن يدعو ثم لأن يلتقي العديد من كبار أهل الفكر، غربيين وعرباً.
وفي بيروت شكلت «النهار» وبعدها «السفير» منبراً لهذا المفكر الذي لم يغادر إيمانه بالأمة وقضاياها وحقها في التقدم بالوحدة، وظل يقاتل مع رفيقة عمره المناضلة هالة سلام مقصود وحتى اليوم الأخير. رحمهما الله.